Al Jazirah NewsPaper Sunday  02/08/2009 G Issue 13457
الأحد 11 شعبان 1430   العدد  13457
ثرمداء النجدية وجمع الشتات

 

عاشت اليمامة -التي هي نجد- (يفرّق العلامة حمد الجاسر - رحمه الله - بين اليمامة جغرافياً واليمامة إدارياً، نظر كتابه (ابن عربي موطد الحكم الأموي في نجد)) فترات شحّ فيها من ينقل أخبارها ويصف حالها (العقدي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني) ويبين أحوال الناس فيها، بداية - تقريباً- من حروب الردة في عهد أبي بكر الصديق، ومروراً بالحكم الأموي وما بعده من الحكم العباسي والدولة الأخيضرية والقرامطة والعيونيون وبني كلاب وبني العصفور، حتى قيام الدولة السعودية ومن ثم نشر الدعوة السلفية باتفاق الدرعية بين الإمامين محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب.

وإن وجد من يدون ويكتب ويوثق فاهتمامه لا يتعدى الحال السياسي والحروب والغزوات والأحداث الجسام التي تغير بوصلة الواقع وتحرفها إلى جهة جديدة بحيث تشير إلى تغير نوعي لم يشهد له مثيل من قبل. في الجهة المقابلة نجد أن تاريخ الكثير من البلدان الأخرى قد تم تدوينه بدقة، ووثقت جميع أحداثه، ورسمت مشاهد وصور للناس وأحوالهم كأنك تراها، فاللباس نقل لنا شكله، والمأكولات، والمشروبات، وطرق الزراعة، وأساليب الري، والماشية والدواب، والعادات، والتقاليد في شتى جوانب الحياة.

يقول الدكتور محمد الشويعر في كتابه (نجد قبل 250 عاماً): لقد عاشت الجزيرة العربية عموماً ونجد بصفة خاصة فترة تاريخية معتمة في نظر المؤرخين، حيث قلَّ ما رصد من الأحداث، وضعفت المصادر التي تستقى منه الوقائع، وذلك خلال الفترة التي تلت دولة الأخيضريون في اليمامة 253هـ - 317هـ ثم دولة القرامطة 317هـ - 470هـ التي أعتمت خلال قيامها سماء المنطقة من المعلومات المتكاملة تاريخياً اللهم إلا النزر اليسير المقترن بأحداث هذه الحركة).. إلى أن قال: (إلا أن نجد خلال هذه الفترة وما تلاها قد أسدل عليها ستار قاتم حجزت بموجبه المعلومات التاريخية، اللهم إلا نتفاً يسيرة تأتي في أماكن متناثرة وعن أشخاص هنا وهناك) أ.هـ. ووصف الدكتور فهد الدامغ في مقال له بعنوان التاريخ السياسي لبلاد اليمامة تلك الفترات الغامضة بقوله (تصيد للشذرات المبعثرة، والإفادات المبددة، ثم الربط بينها وتحليلها واستجلاء دلالاتها واستخلاص نتائج منها) أ.هـ

ولكن هذا كله لا يدل على عدم وجود حضارة أو نشاطات وحراك ثقافي وعلمي في نجد، يقول الشويعر: (ولا نستطيع الجزم بأن هذه الفترة وحتى قيام الدولة السعودية الأولى المنظمة من 1158هـ، لا نجزم بأن هذه الفترة الطويلة كانت بمعزل عن الازدهار الحضاري والرصد التاريخي للأحداث والجهد العلمي في الإنتاج والتأليف) أ.هـ.

قلت: وحتى في عصور الدعوة وما بعدها، سيطر التدوين السياسي والرغبة في تأريخ النزاعات مع أمراء وعلماء الدعوة وتوثيق أخبار من حارب ضد الإصلاح العقدي، سواء كانت تلك الحرب عبر هجمات عسكرية، أو مجادلات وتداولات ومخاطبات علمية، أو نظم شعري فصيح كان أم نبطي شعبي، بالإضافة لتدوين حروب وحملات الدولة المصرية على منطقة نجد للسيطرة عليها وضمها تحت لوائها (وإن كانت الدعوة والحد من انتشارها هو الهدف الرئيس لتلك الحملات وليس نجد كناحية جغرافية أو توسعية).

وإني لأشارك الأستاذ عبدالرحمن السويداء العجب والتعجب، ومحاولاته للوصول لإجابات للكثير من الأسئلة حول سبب عدم إقدام المؤرخين على تدوين تاريخ نجد ووصف أحوال البلاد والعباد فيها، حيث أفرد في كتابه الألف سنة الغامضة من تاريخ نجد من بداية القرن الأول حتى نهاية القرن العاشر الهجري أكثر من موضوع يثير فيه التساؤلات ويضع الاحتمالات ويفترض حلولاً للوصول لإجابات تقنع الباحث والمهتم.

وإن المهتمين بتاريخ تلك الحقب حين واجهوا مثل هذه العقبات في معرفة تاريخ وأوضاع نجد واصطدموا بتلك الفترات التاريخية المعتمة، (إلا من نزر يسير لا يروي الغليل من مؤرخي تلك العصور)، اتخذ أولئك طرقاً توصلهم للحقيقة الغائبة والمعلومة المفقودة من خلال المبايعات، والوصايا، والرسائل الشخصية، والقصائد، والأشعار، والقصص التي استفاضت وتداولها الناس وتناقلتها الأجيال - إن صحت - في معرفة وسبر الأغوار المجهولة من ذلك التاريخ. وإن كانت تلك المصادر قليلة أو أنها تحت دائرة الاتهام بالتصحيف أو التزوير والتلفيق أو الانحياز أو عدم الدقة في المعلومة جراء التناقل الشفهي أحياناً أو السماع غير الدقيق، إلا أنها أعطت بعض الإشارات وبعض الدلائل لأحوال البلاد ومحيطه، ووصفت شظف العيش والصعوبة في الحياة، وجاء فيها بعض الأحداث التي تفيد في دراسة الأحوال الاقتصادية كأسماء بعض العملات، وطرق التعامل المالي، ومواد المقايضات، وبعض الإشارات الوصفية للأحوال الاجتماعية وبعض طرق الزراعة وتقنياتها البدائية وأنواع المحاصيل، والمزروعات، ووسائل التنقل والمسافات. وهذا لا يغني أبداً ولا يشبع نهم الباحث أو يروي ظمأ المتأمل، ولكنها أنارت شيئاًً من الطريق وفتحت لبصيص من نور، في استقراء الحوادث والأحوال في ذلك الزمان المعتم.

لذا فلكل بلد وقرية من بلدان وقرى نجد المنتشرة تاريخ خاص أستقي من تلك المصادر التي أشرنا إليها آنفاً، جمعت من أهله وساكنيه، ومن سيهتم بها سيقوم - بالطبع - بجمعها وصيانتها - إن احتاجت لذلك - ومن ثم تفريغ ما فيها وبحرص شديد عبر التأكد من قراءتها القراءة الصحيحة ابتداء، وتهجئة كلماتها وحروفها على الوجه الذي كتبت به مع الحذر من التصحيف، والخطأ في النقل، بعدها يقوم بمقابلتها مع وثائق أخرى، للتأكد من الدقة العلمية فيها وتجانس الروايات والتواريخ المؤكدة لمحتواها. ويمكن أن تكون الاستفاضة واتفاق الناس - التي هي مصدر قوي من مصادر التاريخ - دليلاً على ارتفاع درجة صحتها، بالإضافة للقصائد والأشعار كذلك.

وبعد هذا وذاك أشير لإحدى مدن نجد والتي شكل وجودها منعطفات تاريخية، إنها ثرمداء التي ذاع صيتها وأصبحت من أهم المدن فيها (الدرعية، الرياض، ثرمداء، حرمة، العيينة، الدلم). جاء ذلك عند مقبل الذكير في كتابه مطالع السعود (1300هـ - 1363هـ) حين تحدث عن الزعامات المهمة في نجد آنذاك ويقول أيضاً إن: (ثرمداء لا تزال مشهورة بكثرة النسيج من ذلك التاريخ إلى ما يقارب مائة من الزمان) أ.هـ. وقال الشيخ محمد ابن بلهيد في كتابه صحيح الأخبار: (ثرمداء مدينة كبيرة وعظيمة بها نخيل...) أ.هـ. ويقول الشيخ داوود السعدي العراقي (ذي القعدة 1288هـ): (نزلنا ثرمدة قرية كثيرة المياه والبساتين والأهالي..) أ.هـ. إنها ثرمداء التي شحت المصادر عن أخبارها وأحوال أهلها وساكنيها، وسيطرت أخبار الحروب معها والتنافس على السلطة فيها على اهتمام من رأى التوثيق والتدوين عنها، وهي المدينة المؤثرة في نجد على الصعيد السياسي والاقتصادي.

وقد قيض الله لثرمداء رجلاً جمع شتات أخبارها، وتعب وجاهد في ذلك، وقام بالتوفيق بين المصادر التي وقعت بين يديه والتي تحكي تاريخها وتصف أحوالها وتبين سبل عيش سكانها، وقضى سنوات وسنوات في البحث والتنقيب عنها، حتى أصبح تاريخ ثرمداء عنده بها شمس ساطعة وبدراً مضيئاً، وفرح أهل ثرمداء بهذا السفر العظيم وانتظروا لحظة طلوع شمسه وظهورها، في ظل تقصير المثقفين من أبنائها - وهم كثر - لبذل الوقت للبحث في تاريخها وتدوين أحداثها وتوثيق القصص من كبار السن فيها والذين نفقدهم عاماً تلو عام، فهم رواة مجهولون ومؤرخون يعيشون في الظل وبالتالي تزويد المكتبة التاريخية والتراثية بالمزيد عن ثرمداء وتاريخها.

ولكن يد المنون وانقضاء الأجل كانا الفيصل هنا، فقد انتقل لرحمة الله الشيخ سليمان بن الدخيل، الذي لم يبخل بالوقت على تاريخ بلده، ولم يفتر جهده لتناول ودراسة أوعية ومصادر المعلومات التي وجد عنها. ولم تكل أو تمل أنامله حين خط بهن كتابه الذي حجب عنه النور بعد موته، وأغلقت عليه الأدراج وأحكم غلقها بعد أن فارق الحياة، وهنا أقول: عجل الله الفرج لكتابه ليخرج للناس ويستفيد منه القاصي والداني، وتستقى منه الأخبار عن ثرمداء بعد أن جمع شتاتها، ولملم ما تبعثر منها، وقرب ما ابتعد منها. وأضيف قائلاً: أن مثل هذه الأعمال المشكورة هي - في الحقيقة - نواة عمل وطني جبار حين تجمع وثائق كل بلد ويعتنى بها وتفك رموزها ويستفاد مما فيها، فإنه ما زال هناك الكثير والكثير منها حبيس صناديق مقفلة وخزانات محكمة.

سعد بن دخيل بن سعد الدخيل - ثرمداء
SDOKHAIL@GMAIL.COM



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد