قدر الحياة المأزوم أنه لا استقرار ولا حياة سوية إلا بسلطة آطرة وهي مطلب إنساني وديني، حتى أن الإسلام يراها من مفردات العقيدة:- (من مات وليس في رقبته بيعة مات ميتة جاهلية)،..
والتأمير مأمور به بين الاثنين، حتى الرجل والمرأة يستدعي اجتماعهما التأمير:- (الرجال قوامون على النساء).
وهي قوامة تدبير وإدارة، وليست قوامة استعباد وفوقية، ومهمة السلطة الأخذ على يد السفيه والنيابة لتدبير شؤون التجمع الإنساني وقمع كل متجاوز: أخلاقياً أو حقوقياً أو سياسياً أو دينياً لما حددته مختلف العقود المكتوبة أو المعهودة: شرعياً أو سياسياً أو عرفياً.
والمجتمع أي مجتمع محكوم بسلطات ثلاث: دينية وسياسية واجتماعية، إذ هناك دستور وقانون وأعراف مكتوبة أو معهودة. والخروج عليها تمييع للسلطة وإغراء للفوضوية. وقدر التجمع الإنساني الأكثر استحالة على الحلول أن العقود المحكمة عرضة لخطأ المعد أو المفسر أو المطبق.
ولأخطاء الثلاثة: المعد والمفسر والمطبق مناطاتها وأسبابها، والمتغرر قد لا يجد الوقت الكافي للتأمل واستكناه نوع الخطأ أو مصدره لكي يتمكن من اتخاذ الموقف وأسلوب المواجهة، وأقدار الحياة والتجمعات الإنسانية غير قابلة للحصر، ومن ثم تظل المشاكل تتناسل وتظل الحياة السوية فضلاً عن السيئة مشرع اختلاف متنام، وبخاصة في مجال السلطة وعلى المتشائمين والمحبطين استعادة التاريخ في أنصع مراحله وأقربها من عهد النبوة، فالخلافة الراشدة لم تمر فتراتها الأربع بسلام، ويكفي أن ثلاثة من الخلفاء قتلوا غيلة، وحديثي لا يمتد إلى السلطة السياسية ولكنه ينطلق منها، ثم لا يتحدث عن ذات السلطة، ولكنه يفاضل بين آليات الوصول إليها، أو هو على الأصح يحاول تقويم الآليات دون المفاضلة بينها، ولأن كل سلطة هي في حد ذاتها مسؤولية، وهي درجات من حيث الاتساع والمحدودية، ولو دقت نظرتنا لأصبح كل مكلف مسؤول، وفي الحديث (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). وفي ظل التعدد والتنوع لا بد من التسديد والمقاربة.
فما من مفكر مجرب واع يحلم بالطوباوية ولا بالمدينة الفاضلة، مثلما يحلم بها المهووسون من الحكماء والفلاسفة، فالإنسان وسط بين الملائكية والشيطانية.
ومع أن هناك سلطة عليا مهيمنة فإن هناك سلطات دونها متعددة فالإقليمية والطائفية والقبلية والحزبية والنقابية وحتى الأسرية تمارس كل فئة سلطة على أفرادها، وسواء شعر المحكومون بهذه السلطات أم لم يشعروا فهي قائمة ومؤثرة، وهي تتبادل الحيازات والنفوذ فيما بينها وبقدر ضعف السلطة العليا تقوى السلطات الأخرى، وقد تتنازع فيها بينها، وفي ظل هذا التفاوت تنبعث الفتن، ولنا أن نسمع إلى حسيسها في العراق والصومال ومن قبل في لبنان واليمن، ولكي يحفظ التوازن لا بد من تقوية السلطة العليا وتعزيز جانبها والسمع الطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر، فالفراغ الدستوري فتنة والفتنة أشد من القتل، ولقد أدرك الإسلام خطورة الفراغ الدستوري بتحذيره من نقض العهود، وإغرائه بقتل من يشق عصى الطاعة: (من جاءكم وأمركم جميع فاقتلوه) - أو كما قال -. والدولة حين أصدرت (نظام الحكم) وعززته ب(هيئة البيئة) تريد سد الذرائع ودرء المفاسد، وهي من مقاصد الدين التي سيء فهمها وسيء تطبيقها. حتى لقد عطلت عند فئة وأتيح لها الاستبداد عن فئة أخرى.
وبتجاوز السلطة التشريعية إلى السلطة التنفيذية لا من حيث الممارسة ولكن من حيث آلية التشكل نجد أن تلك الآلية إشكالية بحد ذاتها ولكن الصراع يدور حول مشروعية الممارسة لا حول مشروعية التشكل، لأن الممارسة ثمرة لا تكون بالضرورة ناتج الخطأ في التشكل، إذ ربما تكون الآلية سليمة ولكنها لم تصب المحز، ولقد أشرت من قبل إلى آلية وصول رؤساء أمريكا إلى سدة الحكم بوصفها أعلى منصب على وجه البسيطة وتفاوت أقدار المتسنمين لهذا المنصب الخطير وقدراتهم مع أن الآلية عشق الجميع بوصفها آلية انتخابية، وأخطاء الممارسة قد تكون رهينة التشكيل، ولكنها ليست السبب الوحيد، وتقويم آلية الوصول إلى السلطة ليس بالأمر اليسير، فكثير من المتابعين والراصدين للإشكاليات يتصورون أنه بالإمكان الركون إلى آلية معاصرة وصل إليها غيرنا، وفي ظني أن هذه الحصرية ليست على إطلاقها كما أن التقليل من قيمتها مغالطة ممجوجة.
ولو ضربنا مثلاً بآلية (الانتخاب) وهو آخر آليات الوصول إلى السلطة وأكثرها شيوعاً في الأوساط السياسية (الديموقراطية) لوجدناه من خلال التجارب لا يحسم الخطأ ولا الاختلاف ولا يرضي كل الأطراف، بل قد لا يحفل به البعض، وليس أدل على ذلك من أن الذين يملكون حق الانتخاب لا يذهبون إلى صناديق الاقتراع لأن الانتخاب في نظرهم آلية من دونها آليات أخرى ليست سوية تجهز لها وتفرض منتجها، وحتى آلية (الانتخاب) بوصفها أحد الخيارات في المملكة العربية السعودية لم تجمع على أولويتها النخب الفكرية بحجة أن القاعدة العريضة محافظة وليست حفية بأي خطاب يمد بسبب إلى المستجدات، وأن تلك الآلية قد تفوت الفرصة على من يسمون أنفسهم ب(التنويريين) أو (الإصلاحيين).
وحين لا أكون ضد أي آلية فإنني لست ملزماً بأن أتملق أي طرف على حساب الآخر، كما أنني لست حفياً بمواجهة السائد لمجرد الدخول في دائرة الضوء، ولن أستهلك جهدي بالتزكية أو بالمفاضلة، ومتى كان هدفي البحث عن الحق فإنني لا أزكي نفسي ولا أدعي أن قولي حق صراح لا تجوز مساءلته ولا يسوغ رده، وكل ما أرجوه اللطف في المساءلة والوقوف حيث يكون الاختلاف بحيث لا يضار كاتب ولا شهيد. وعندي أن كل الآليات خيارات ممكنة، ولكنها قد تكون خيارات مباحة وغير مناسبة، ولهذا لا بد من تهيئة الأجواء لأي إجراء قبل الأخذ به.
ولقد أشرت من قبل إلى أن آليات الوصول إلى المسؤولية النيابية أو التنفيذية لا تكون الأفضلية مرتبطة بذات الإجراء بحيث نقول: لا أفضلية إلا للانتخاب مثلاً. ولقد علمنا تزوير الانتخابات في أكثر من دولة تتشدق ب(الديمقراطية) وقضية (إيران) شاهد حي، وقد تؤدي المعارضة للنتائج إلى سقوط النظام والدخول في الفوضى. وفي الدول الثورية لا تجد غضاضة من تعديل الدستور المرة تلو الأخرى للإبقاء على السلطة لدورات مفتوحة أو التعديل في سن المنتخب، مع أن التعديل لا يضمن الفوز، ولكنه مضمون بالتدخل، وتكرير الفوز وحصول المنتخب على نسبة كاسحة، أو فوز زعيم الانقلاب دليل على أن الآليات لا تؤخذ بحقها، وهنا نقول بأن آلية الوصول إلى المسؤولية تتطلب العدل والإنصاف والمصداقية والتماس الحق، ولتكن بعد ذلك انتخابية أو اختيارية، فإذا كان الانتخاب أو الاختيار أو الترشيح ولم تكن تلك الصفات الحميدة باءت الأمور بنواياها السيئة ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
ولقد آثرت من قبل قضيتين مهمتين: المأسسة وثقافة المأسسة. وأشرت إلى أن المجتمع المدني لا يمكن أن يأخذ وضعه الطبيعي إلا حين تختفي فيه سلطة الفرد وتقوم سلطة المؤسسة التشريعية والنيابية والتنفيذية في الشأن كله، وأن المؤسسة أي مؤسسة لا يمكن أن تؤدي دورها المنوط بها والمؤمل منها إلا إذا شاعت ثقافتها واستوعب المستهدف مهماتها وأمواءها وطرائق التعامل معها، وفوق ذلك كله لا بد أن يكون تشكل المؤسسة متوخياً الإرادة الجماعية على أن تظل هذه الإرادة محققة تشخصن حضارة الانتماء، وحين تكون المؤسسة ثم لا يكون فهم المراد أو حين تكون ثم لا تمارس المؤسسة حقها أو حين تكون ثم لا يمارس أعضاؤها مهماتهم بسبب عدم الأهلية أو عدم التمكين تصبح شكلاً من أشكال الزينة يملأ الفراغ بفراغ مثله، والدولة الواعية لمهماتها تتحرف لإصلاح الشأن كله لا تجازف فتفقد المكتسب ولا تمارس القفز ولا تتعمد لهب العواطف والادعاء العريض، فالدول الثورية لعبت بعواطف الجماهير وألهتهم بمعسول الكلام، وفي النهاية خيبت الآمال وحطمت المشاعر ومكنت للإحباط من نفوس العامة وصنعت ثقافة الانكسار ولما تزل الشعوب مرتهنة للفقر والقهر والفوات الحضاري، وكل منشأة جديدة سواء أكانت شورية أو نيابية أو رقابية بحاجة ماسة إلى مزيد من التعديل والتبديل والمراجعة والتقويم لكي تتمكن تلك المؤسسات من ممارسة مهماتها وفق تطلع المواطن ورغبة الدولة على أن يطال التصحيح آلية الوصول إلى المسؤولية ومنهج ممارسة المهمة وحدودها.