بعد انتصار الثورة المصرية أنشأ عبدالناصر أشكالاً مختلفة من المحاكم (الاستثنائية) مثل المحاكم العسكرية، ومحكمة الثورة، ومحكمة الغدر. هذه المحاكم كانت في حقيقتها محاولة (بائسة) لتوظيف القضاء خادماً في بلاط الثورة، ضارباً بمبدأ استقلالية القضاء عرض الحائط؛ وهو ما استفز - بالمناسبة - شخصية قانونية فذة مثل الدكتور عبدالرزاق السنهوري فعارضها، مما اضطر عبدالناصر إلى إرسال مجموعة من الغوغائيين في مارس 1954 إلى السنهوري في مكتبه واعتدوا عليه جسدياً، ثم عزله عبدالناصر من جميع وظائفه الاستشارية في الجهاز القضائي. بعد ذلك توالت أحكام هذه المحاكم التي وصفت أحكامها بأنها ظالمة ومفبركة، وهزلية. كانت هذه المحاكم وجهاً (قبيحاً) للحكم الناصري كما يقول التاريخ، ومؤشراً قوياً على (إفلاسه)، وعدم قدرته على الإقناع إلا من خلال القمع، وتوظيف القضاة كأصغر الموظفين في أجهزة المخابرات.
ما حدث في مصر عبدالناصر حدث وما يزال يحدث في إيران الخميني. فأمام (محكمة ثورية) في طهران يُحاكم الآن نحو 100 متهم في قضية الاضطرابات التي أعقبت الانتخابات؛ مثل هذه المحاكمات لا يمكن أن تبرئ حكام إيران، وتدعم موقفهم بقدر ما تدينهم مثلما أدانت آخرين في تجارب تاريخية مماثلة. فالمتهمون سيدلون بأي اعترافات تُطلب منهم، لدعم مواقف المحافظين، والحرس الثوري، وكل من ساهم في تزوير الانتخابات.
الإصلاحي الإيراني البارز محمد علي أبطحي كان أحد المتهمين بالتآمر على الثورة، والتحريض على أعمال الشغب (الدموية) بعد أن أعلنت نتائج الانتخابات الإيرانية الأخيرة. أبطحي اعترف - كما جاء على لسانه أمام محكمة الثورة - أن فوز الرئيس محمود أحمدي نجاد كان نتيجة انتخابات نظيفة (كذا!)؛ وأن التزوير كان (كذبة تم اختلاقها من أجل إثارة أعمال الشغب كي تصبح إيران مثل أفغانستان والعراق. وأن خاتمي ومير حسين موسوي والرئيس السابق أكبر هاشمي رفسنجاني (خانوا) المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، وأنهم خططوا للحد نوعاً ما من سلطة المرشد). هذه الشهادة لا تقوي موقف المحافظين بقدر ما تصب في مصلحة المعارضين. فمن بدهيات العدالة في كل الشرائع رد شهادة المكره، أو المرتشي، أو الخائف، أو صاحب مصلحة من الشهادة؛ وهي احتمالات تكتنف شهادة أبطحي أمام المحكمة مما يقدح في نزاهتها. ولا أعتقد أن ذلك غائب عن ذهن من (فبرك) مثل هذه المحاكمات، وأعلنها على الملأ؛ غير أن المحافظين - على ما يبدو - في مأزق، خصوصاً أن هناك انقساماً لا يمكن تجاهله بين آيات إيران تجاه فوز نجاد بالانتخابات، إضافة إلى عدم رضا كثير منهم من موقف المرشد الداعم لنجاد. لذلك كان لابد من تقوية المحافظين حتى وإن كان على حساب صدقية الثورة وعدالة محاكماتها؛ وفي الوقت نفسه (تهديد) المعارضين بإدانتهم (بالخيانة العظمى) فيما لو استمروا في تحديهم للولي الفقيه؛ وهو ما ألمحت إليه اعترافات أبطحي المفبركة. ولا أظن أن محاكمة أبطحي سينتج عنها أي أحكام تجاهه، فالبراءة هي الأقرب نظراً إلى أن شهادته أمام المحكمة كانت نتيجة (صفقة) جرى تنفيذها بين أبطحي والمحافظين، يكون ثمنها النجاة بجلده من مقصلة الولي الفقيه؛ هذا ما أظن أن محاكمة أبطحي ستنتهي إليه.
ومهما يكن الأمر، وكما يقول لنا التاريخ، فالأنظمة عندما تلجأ إلى القضاء وتتدخل في توجيهه لإدانة خصومها فإنها تعلن بداية إفلاسها. إلى اللقاء.