كان عند رجل فرس هو رأس ماله وأعزَّ ما يملك. استيقظ هذا الرجل ذات صباح وإذ بالفرس ليس في مكانه. جاء أهل القرية يواسونه في فرسه الذي رحل، فقال لهم: ربَّما، بعد أسبوع عاد الفرس ومعه فرس آخر أحسن منه. فجاء أهل القرية يباركون له، فقال لهم: ربَّما، ركب ابنه الوحيد الفرس الجديد فسقط منه وانكسرت يده وأصيب جسده بكدمات مختلفة. فجاء أهل القرية يواسونه على مصابه فقال لهم: ربَّما، غارت قبيلة مجاورة على قريته فأعلن أمير القبيلة وحاكم هذه القرية الصغيرة وجوب مشاركة جميع أبناء القرية في هذه الحرب واستثني ولد هذا الرجل لكونه قعيد الفراش، فجاء أهل القرية لوالده، وقبل أن يتكلم أي منهم قال: ربما.. ربما... أخي العزيز، أيها القارئ الكريم، كنت تتمنى أن تتزوج بنت فلان ولكن سبقك لخطبتها شاب مثلك، ربما كنت تتطلع لمنصب ما وذهب لغيرك، ربما كانت نفسك تتوق لشراء أرض أو دار أو سيارة أو... ولكن ظفر بها آخرون، ربما كنت تنافس على مقعد دراسي في جامعة وكان من نصيب طالب آخر، ربما أصيبت بمكروه لا -سمح الله- دون إهمال أو تفريط منك، ربما...
كثيرة هي الاحتمالات والتصورات التي تدور في الذهن فالدنيا مليئة بالمفاجآت والتحولات التي لا يملك الإنسان أمامه إلا الانقياد والتسليم للقضاء والقدر، إذ إن الأمر في النهاية كله لله أوله وآخره، ظاهره وباطنه، (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف). نعم الشرع والعقل يقولان لنا إذا بذلت الجهد وفعلت الأسباب ولم تنل ما كنت تطلبه أو أصبت بمكروه -لا سمح الله- فقل (ربما)، فالإنسان لا يملك تحديد النتائج ولا يعلم أين الخيرة، ولا متى يكون الفرج {..وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، ولذا شرعت صلاة خاصة اسمها (صلاة الاستخارة)، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: (إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدِر ولا أقدِر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال: عاجل أمري وآجله) فاقدُره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال في عاجل أمري وآجله) فاصرِفْه عني، واصرِفني عنه، واقدُر لي الخير حيث كان ثم أرضني (رضِّني به)، ويسمي حاجته).
وفي رواية: (اللهم فإن كنت تعلم هذا الأمر ثم تسميه بعينه).
والمتأمل في هذا يصل إلى قناعة تامة أنه لا بد من (ربما) في مواطن كثيرة تمر بنا، فقد يكون في طيات المنحة محنة، وكذا العكس فربما كانت المصائب نعم ومنة من الله، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما أصبتُ بمصيبةٍ إلاَّ ونظرتُ أنَّ الله تعالى أنعم عليَّ فيها بثلاث نِعَم: الأولى.. أن الله تعالى هوَّنها عليَّ، ولم يصبني بأعظم منها، وهو قادر على ذلك.
والثانية.. أنَّ الله تعالى جعلها في دنياي ولم يجعلها في ديني، وهو قادرٌ على ذلك.
والثالثة.. أنَّ الله تعالى يُثيبني عليها يوم القيامة).
إن القراءة الإيجابية أو حتى فتح باب الاحتمالات مع التفاؤل بالقادم من الأيام يجعل الإنسان يوطن نفسه مع إيقاع حركة عجلة الزمن، فلا يجزع ولا يضعف ويمل بل هو يكرر صباح مساء وعند كل حدث يمر به (خيره) أو كما جاء على لسان بطل القصة (ربما)، ومتى صار الظلام حالكاً والليل أرخى سرباله على الكون بأسره فاعلم أن الفجر قريب وأن الصبح الصادق قادم بإذن الله وإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً، وكما هو الحال مع الأفراد هو كذلك مع الأمم والدول، ومن لديه شك في ذلك فإنني أدعوه لقراءة التراث والتأمل في السنن التاريخية الثابتة منذ آدم وحتى اليوم. وإلى لقاء والسلام.