القهوة لم تكن معروفة حتى أواخر القرن التاسع الهجري وأوائل القرن العاشر.. وعندما انتشرت أول ما انتشرت انقسم العلماء تجاهها بين (متشدد) يرى الحرمة و(متسامح) يرى الإباحة، كما يحصل الآن تجاه بعض المستجدات.
كتاب (عمدة الصفوة في حِلِ القهوة) ألَّفه عبد القادر بن محمد الجزيري الحنبلي من فقهاء القرن العاشر الهجري، ونشره مؤخراً (المجمع الثقافي) بأبو ظبي. هذا الكتاب يَروي بالتفصيل جزءاً من هذا الخلاف وما رافقه من تجاذبات وأحداث تاريخية آنذاك أرى أنها جديرة بالنشر.. فقد ذكر المؤلف أن بداية (الإنكار) على شرب القهوة كان في 917 هـ عندما أفتى الشيخ شمس الدين محمد الحنفي الخطيب بحرمتها، فقام (باش مكة ومحتسبها خاير بك) بتنفيذ الفتوى ومُنعَ بيعها وشربها. يقول بالنص كما ورد في صفحة 76 من الكتاب: (وشدّد في ذلك حتى أنه عَزّرَ جماعة من باعتها وكبَسَ مواضيعهم وأخرج ما وجدوه فيها من قشر البن وأحرقه في وسط السوق، فبطلت حينئذ من السوق، وكان الناس يشربونها في بيوتهم اتقاء شره لأنه بلغه عن شخص أنه يشربها فعزّره وطاف به في الأسواق)!.. ولم تلبث أن سُمح بها في مكة، غير أن فقيهاً آخر عاد وأفتى بمنعها ثانية نظراً: (لما يُفعل في بيوت القهوة من (المنكرات)، فأشار على الحكام بإبطال بيوت القهوة مع تصريحه بحلها في حد ذاتها غير مرة لغير واحد) كما جاء في الكتاب، أي أن المنع الأخير كان (سداً للذرائع)!
ثم انتقل الخلاف إلى مصر، وإلى الجامع الأزهر.. فقد جاء في صفحة 81 من الكتاب: (وفي سنة تسع وثلاثين - بعد التسعمائة - رُفعَ للشيخ العلامة واعظ العصر شهاب الدين أحمد بن عبد الحق السنباطي الشافعي سؤالٌ في القهوة صورته: ما قولكم رضي الله عنكم في شراب يُسمونه القهوة يجتمع عليه جماعة يشربونه، ويزعمون أنه مباح، مع أنه يترتب عليه (مفاسد) كثيرة، فهل ذلك جائز أم حرام؟.. فأجاب بحرمتها وأنها مُسكرة)!
كما جاء فيه أيضاً: (وفي سنة 45 - بعد التسعمائة - بينما جماعة في بيوت القهوة في شهر رمضان بعد العشاء وافاهم صاحب العَسَس، إمّا من تلقاء نفسه، وإمّا بأمر أُوحي إليه، وأخرجهم منها على هيئة شنيعة بعضهم بالحديد وبعضهم مربوط بالحبال، فباتوا في منزل السوباشاه (مخفر الشرطة) ثم أُطلقوا صباحاً بعد أن ضُربَ كلُ واحد منهم 17 ضربة)! وقال شاعرٌ في ذلك:
(حَرّموا القهوة عمداً.... ورووا إفكاً وبُهتا
إن سألتّ النص قالوا.... ابن عبد الحق أفتى)!
وفي ص 83 من الكتاب جاء أيضاً: (وورد في عشر الخمسين وتسعمائة في موسم الحج صحبة الركب الشامي إلى مكة المشرفة حكمٌ سلطاني بمنع القهوة وإبطالها وإلزام باعتها بمنع التسبّب بها وإبطال محالها).. ويُعلق المؤلف بلغة الجزم بعد أن استعرض فتاوى التحريم وفتاوى الإباحة: (الذي أقوله إن الحق الذي لا مرية فيه ولا شبهة تعارضه أو تنافيه، أنها في حد ذاتها حلال، وبها من النشاط على العبادة ما لا يشوبه نص ولا اختلال)!
وبعد: نقرأ اليوم مثل هذا التاريخ فنسوقه مثالاً لتعامل عقلية (الممانعة والتحوُّط) في تاريخنا تجاه كل ما هو جديد، فالرفض أولاً والقبول أخيراً.. وهذا الخلاف مضى عليه الآن مئات السنين، ولا أجد فرقاً في الذهنية والأسلوب والتبريرات بين متشددينا القدماء وبعض متشددينا المعاصرين، الأكيد أن هناك قضايا مشابهة، لا تزال بين شدٍ وجذب، سينظر أبناؤنا أو ربما أحفادنا إلى خلاف فقهائنا فيها مثل ما ننظر الآن إلى خلاف أسلافنا حول القهوة أهي حلال أم حرام؟
إلى اللقاء.