أبو العلاء المعري العقلاني الشكوكي المتناقض، لو نظر إلى تقلبات الطقس الفلسطيني والتلاعب بالقضية من حوارييها، والتنازع الفلسطيني الفلسطيني واليهودي الفلسطيني والفلسطيني العربي لكانت حيرته أشد وشكه أعنف، وحُقَّ له
|
أن يقول بملء فمه وبأعلى صوته:
|
هذا الذي جعل الأوهام حائرة |
وصيّر العالِمَ النِّحرير زنديقا |
وإلا كيف يرضون صراع الدّيَكة داخل القفص، ومن ذا الذي يصارع من أجل المهانة والذلة، وما الذي قدمته المنظمات والجماعات والأحزاب الفلسطينية للقضية على مدى سبعة عقود، وهم في كل عام يرذلون. إن تدافع السلطة في ظل هذه الظروف خير من تنازعها وتوقيها خير من تلقيها، ومن الشر المستطير ونكد العيش معايشة هذه الانكسارات، وقدري الموجع أنني وعيت الحراك السياسي عند درجة الغليان يوم أن كانت حركة مقاومة الاستعمار مستعرة في كل بلد عربي، والخطاب الثوري على أشدّه وحركة تحرير (الجزائر) في أوجها، وكنا إذ ذاك أغيلمة نتوقد حماساً ونمتلئ طهراً غير أنّا لا نثني القناة إذا هززناها، كما (الحجاج) الذي تقول عنه الشاعرة: (غلام إذا هزَّ القناة ثناها).
|
نحضر المهرجانات والتجمعات، ونستمع إلى الخطب الرنانة ونقرأ الملصقات الملتهبة ونشهد جمع التبرعات ونقرأ الكلمة التي تتصدر كل دعوة (ادفع ريالاً تنقذ عربيا) ، وكانت مشاعرنا كما الأودية تختلط فيها الهتافات وتلتطم فيها القضايا: طرد اليهود من فلسطين.. طرد الفرنسيين من الجزائر.. طرد البريطانيين من الخليج، وكانت مثاليتنا لا تمكننا من فرز الأصوات ومعرفة الصادق من الكاذب، ولم تكن ثورة الاتصالات قد قامت بحيث نعرف أدق التفاصيل عن كل الأطراف، وبحيث لا يستبد خطاب واحد في تشكيل وعينا، ويومها لم تنكشف اللعب السياسية ولم نعرف خباياها كما لم نقف على منطويات اللاعب، ونحن إذ ذاك كالأرض الموات يملكها السابق إلى الحرث والسقي، ومن ثمَّ كان حماسنا لا يُحد وشعورنا لا يُقاوم وتصورنا لقواتنا العربية وإمكانياتنا أنها لا تُقهر، وأن المسألة مسألة زمن ليكون الحسم لصالحنا قاب قوسين أو أدنى، ولهذا لم نحتمل نكسة حزيران، ولما تزل آثارها باقية كما الغبار النووي، وتحررت الجزائر واستقل الخليج وخرج المناضلون من السجون وتسنموا المناصب، وكان ما كان مما لا نودُّ نبشه ولا تذكره، وإن كان ثاويا بين طيات التاريخ الحديث، وخرجنا من تحرير الجزائر لنواصل المسيرة لتحرير فلسطين، فكانت الآية هي الآية، ولكن الأشخاص غير الأشخاص، كان وراء فرنسة الجزائر فرنسا وحدها، والأمة العربية والعالم كله وراء تحريرها وعربيتها، ولم يجد (ديجول) بداً من التسليم للأمر الواقع وإنقاذ الجمهورية الخامسة بذات الطريقة التي أنقذت فيها أمريكا نفسها في (فيتنام) وخرجت وأسدل الستار، وعادت فرنسا لتلعب أدوارها في مختلف الصراعات العالمية، كما لو كانت بريئة من المقترفات التي أودت بحياة مليون شهيد براءة الذئب من دم يوسف، ولأن القضية الفلسطينية تختلف كلية عن القضية الجزائرية، فقد ظلت وعلى مدى سبعة عقود تراوح في مكانها؛ فالعالم كله مع تهويد الأراضي الفلسطينية بإخراج الفلسطينيين وجلب اليهود من آفاق المعمورة، ومراوحة القضية تتمثل في تنازل العرب والفلسطينيين عن قضايا مصيرية وتشدد الصهاينة، تتوارث الحكومات الإسرائيلية القضية فلا يزيدها ذلك إلا صلابة وإصراراً وتمسكا بثوابتها، ويتوارث المناضلون الفلسطينيون منظماتهم فلا يزيدون قضيتهم إلا ضعفاً وتفككاً وتناحراً فيما بينهم وخنوعا واستسلاماً واستجداءً. الإسرائيليون يُخْضِعون اللعب السياسية لصالحهم ويمارسون عملهم كشريك فاعل ومؤثر والفلسطينيون يَخْضَعون لصالح اللعب ويمارسونها كأجراء بثمن بخس، الإسرائيليون يستغلون الكبار، والكبار يستغلون الفلسطينيين، المنظمات اليهودية في كافة أنحاء العالم تدعم القضية اليهودية وتستغل كل الطاقات لصالحها، والزعماء الفلسطينيون في الداخل والخارج يدعمون الذوات ويختصرون القضية في الزعماء، اليهود يحاكمون المتخاذلين، والفلسطينيون يصنِّمون الخونة، والدول الداعمة إلى حد الإضرار بالمصالح القومية، يفاجأ بعضها بمواطأة فلسطينية ضد مصالحها وإذا انكشفت السوأة هبَّ المستفيدون إلى تطويق الحدث وسحبه من المشهد ليرم الجرح على فساد تحت وابل من العواطف الزائفة، وكل قادم من الحكام الثوريين يفتح شهيته بمبادرة تلهب الأحاسيس وتحرك الجمود حتى إذا تمكن استدبر القضية وزايد عليها، والشعب الفلسطيني الحاضر في المغارم المغيَّب في المغانم يرقص على الجراح وتلعب بعواطفه الخطابات الرنانة؛ فهو مع الأندى صوتاً، والأبرع في الحركات البهلوانية، وكل لعبة قاصمة للظهر تجد الصوت الفلسطيني في المقدمة أو في الساقة يحدو أو يرود، فإذا انجلى الغبار وتبيَّن أن الذي تحت المُغِيْر حمار جاءت كلمات الاعتذار والأخذ بالأحضان لتطييب الخواطر ورفع الملفات، وتلك التقلبات المخلة بالمصداقية أطفأت التوهج العاطفي للقضية عند الشعوب العربية، وأضعفت الحماس وأصبح المواطن العربي يسمع بالضربات الموجعة والمجازر الدامية، ثم لا يلقي لها بالاً، وكل ما يجود به ترديد المثل العربي (يداك أوكتا وفوك نفخ).
|
وكل مسؤول عربي لا يزيد على الاستنكار الباهت والاحتجاج غير المسنود، كانت الدول العربية من قبل هي التي تخوض المعارك، وهي التي تُجرم التفاوض أو التطبيع فضلاً عن الاعتراف وتبادل السفراء، ولكي لا نمارس جلد الذات والتلاوم لا بد أن نؤكد أن وراء القضية ركاماً من المشاكل والمعوقات التي صنعها الجميع؛ بمن فيهم أهل القضية، وعلى المتنفذين من عرب وفلسطينيين أن يبدأوا بأنفسهم وأن يحاسبوا ذواتهم، وأن يصححوا أخطاءهم، وأن يتداركوا تجاوزاتهم؛ فالقيم المعنوية أهم من القوة الحسية والقضية لا تتطلب سلاحا ولا تأييداً دوليا، القضية تتطلب الصدق وتوحيد الكلمة عربياً وفلسطينياً والتصافي والمصارحة، ووضع خطاب موحَّد لا يحيد عنه إلا هالك.
|
الأمة العربية كيان مؤثر لو تدفقت إرادته في مجرى واحد وباتجاه مصب واحد، إن علة القضية باطنية، وما لم تُكشف الأوراق ويوضع كل مقترف عربي أو فلسطيني أمام نفسه فإن القضية ستصبح ورقة ارتزاق وبناء أمجاد زائفة، الفلسطينيون يتحمَّلون شطراً من المسؤولية، بل يتولون كبرها؛ لأنهم يواطئون المزايدين وينفذون خطط المستفيدين ويخضعون قضيتهم للمزايدات الرخيصة، ولستُ بحاجة إلى سرد المواقف المدينة، فالناس يرونها رأي العين، وما لم نواجه أنفسنا بوصفنا أمة عربية ذات مصير مشترك، وما لم نملك الشجاعة في مساءلة الذات وتصحيح المسار وتصفية الخلافات وتوحيد الهدف فإن القضية ستضيع كما ضاعت الأندلس، وسيمتد الضياع إلى دول الجوار خاصة، وكافة الأقطار العربية عامة، فالصهيونية بإمكانياتها واستشرائها ستسري في شرايين الأمة كالخدر، واليهود أذلة وقلوبهم شتى ولكن عداءهم للإسلام يوحدهم، ولن ينتصروا إلا بحبل من الناس، وأمريكا تتولى كبر ذلك الحبل، وعلينا أن نمتلك المُدْيَة الحادة التي تقطع ذلك الحبل، الأمة العربية خذلت نفسها قبل أن تخذل القضية والفلسطينيون خذلوا أنفسهم قبل أن يخذلوا قضيتهم، وأوضاع الطرفين لن تكون قادرة على وقف الانهيارات فضلا عن تحقيق المنجزات. العرب يخافون من بعضهم أكثر من خوفهم من اليهود، وهم يأتمرون فيما بينهم، ولكل زعيم مصالحه الخاصة، ولكل مؤتمر خطابه، والقضية لم تكن الهم الحقيقي، والفلسطينيون يخافون من بعضهم أكثر من خوفهم من اليهود، وكيف يصطلحون والمعتقلون عند اليهود وعند الفلسطينيين من الفلسطينيين يعيشون معاناة واحدة، ويبحثون عن الإفراج عنهم، وممانعة حماس وفتح ليست بأقل من ممانعة اليهود، أتكون القضية هم الجميع، وكل الأطراف بمن فيهم اليهود يتبادلون الأسرى، وكل قتيل بسلاح يهودي أو فلسطيني يعد شهيداً، لقد كانت البندقية باتجاه العدو، ولكنها اليوم باتجاه الشريك.
|
إذاً، نحن مع القضية وضدها، وهذا من تكليف الأشياء فوق طباعها، وممارس هذا اللون من الفعل (كملتمس في الماء جذوة نار) ولن يستقيم أمرنا حتى نواجه أنفسنا قبل مواجهة العدو، وساعتها سنحارب العدو ومن وراءه بالإرادة الصادقة لا بالسلاح، بالتحدي لا بالمواجهة، إسرائيل بوحدة الصف العربي وبوحدة الهدف أضعف ما تكون، منع إسرائيل من اختراق الأجواء العربية سلماً سيقضي عليها بالموت البطيء. المقاطعة وحدها، وحصرها داخل حدودها سيحولها إلى نار تأكل بعضها إذ لم تجد ما تأكله.
|
|