(1) التراث بكل أبعاده وبواطنه وظواهره وحسناته وسيئاته وتألقاته وإخفاقاته ونخبويه وشعبويه.. كل ذلك وأكثر حقيقة مغروسة فينا؛ لا نبرح عليه عاكفين؛ تدارساً وتفحصاً وجمعاً وتهذيباً وتحقيقاً ونقداً؛ حتى أشد الداعين إلى هجره وأشرس المطالبين بالتخلي عنه لا يطيقون منه فكاكاًً ولا هجراً..
.. وهذا يدعونا دون تردد إلى إعادة النظر في هذه المسألة، ولكن الأمر الذي يعنيني هنا ليس التراث بهذا المعنى الكبير وما يفرزه من إشكاليات ضخمة، بل التراث بشقه الإنساني المباشر، الذي أرجو ألا نختلف حوله!
الشق الإنساني من التراث - أو التراث الأثري- يعني أنك كإنسان ستتمكّن من أن تحتفظ بذاكرتك كما تحب، فلا ُينتزع منها شيء بغير إرادتك، مما يجعلك قادراً على تخليد اللحظات الجميلة أو المفصلية، عبر تعامل ثقافي حضاري راق مع قريب التاريخ وبعيده... ما أجمل أن تحتفظ المدينة التي تسكن بها بكل ما هو معتّق بنفس الأجداد والأوائل... صحيح أن الصناعة الحديثة وهبتنا أدق الكاميرات لتصوير المشاهد... ولكن الصور لا تعدو أن تكون (وسيلة يائسة لتحنيط الزمن) - كما تقول أحلام مستغانمي -، نحن لا نريد صوراًً (ميتة) لآثارنا بل نريد تخليداً (حياً) لها!
(2) إذن ما نطالب به هو المحافظة على (بعض) المباني القديمة و(كل) الأماكن التاريخية ذات القيمة الحضارية باعتبار ذلك رمزاً لجزء من تاريخنا وانعكاساً للمكون القديم في ذاكرتنا الجمعية؛ فنحافظ عليها في كل مدينة وقرية وهجرة، فلا تمس ولا تهدّم، ومما يؤسف له أننا نكاد نهدم كل ما يمت للآثار بصلة بحجة العمران والتنمية والتوسع، وكأنه يعوزنا بضعة أمتار لهذا السوق أو تلك الوزارة أو هاتيك المدرسة... من يعاين شرهنا في تهديم المباني الأثرية وحماسنا على إزالتها يعتقد أننا في أضيق الأماكن في العالم، وربما يظن أننا في مدينة تكاد لا تلتقط أنفاسها من شدة الازدحام كطوكيو أو سان فرانسيسكو أو نيويورك أو لندن أو هونج كونج، مع أننا في الحقيقة نعيش في صحراء باذخة الكرم في أرضها وفضائها..
(3) ومما أحزنني كثيراً أنني لم أقف على أي جهد مهني يذكر من قبل مهندسينا العرب بخصوص مسألة المحافظة على النمط التراثي في العمران، كما أنني لم أشاهد توعية عمرانية تذكر، فضلاً عن البناء والتشييد الأصيل في مدننا وقرانا، وأذكر يوماً أنني حضرت مؤتمراً هندسياً في إحدى الجامعات السعودية - جامعة القصيم -، فطلبت منهم في إحدى الجلسات العلمية أن ينتفضوا ضد تمزيق التراث العمراني وتهديمه ومنع الجور الواقع عليه من قبل بعض الجهات التي تعمل بعضلها لا بعقلها حين تتعامل مع المباني التراثية في كثير من المدن، قلت لهم صادقاً ومتألماً: إنني في مدينتي - بريدة - بت لا أستطيع أن أتذكر جدي حين كان يرحب بضيوفه ويسامرهم على نار مذهّبة بحطب السمر أو الأرطى، كما أن ضوء الذاكرة الخافت يوشك أن ينطفئ وهو ينقل لي مشهداً أرى فيه جدتي وهي تحلب بقرتها لتصنع منه لبناً وزبدة وجبناًً، وأنهيت مرافعتي لحماية ذاكرتنا الجمعية بالمطالبة بإدخال ذلك الأمر في ميثاق مهنة الهندسة ودستورها الأخلاقي للمحافظة على ما تبقى من دور وبيوت قديمة قد تنالها جرافات البلدية على حين غفلة أو تقاعس من مثقفينا ومجالسنا البلدية، فما كان من مدير الجلسة (المهندس) إلا أن وافقني بشيء من البرود في حين اكتفى البقية بالابتسامة، أقول هذا وأنا أعلم بأن ثمة أدبيات ثرية وممارسات ممتازة في هذا المجال سواء من الناحية العلمية أو القانونية أو التطبيقية؛ في شكل أبحاث ومواثيق وتجارب وآليات، وقد بلغت حد جيداً من الدقة والاكتمال، وقد أدى الاهتمام الموسع في بعض المجتمعات إلى نشوء حقول معرفية جديدة ك (علم الحفاظ على التراث الثقافي)، مع التشديد على تضافر جميع العلوم والتقنيات للحفاظ على المعالم الأثرية وإنقاذها (انظر على سبيل المثال: الحفاظ على التراث الثقافي - نحو مدرسة عربية للحفاظ على التراث الثقافي وإدارته، د. جمال عليان، عالم المعرفة، 322، ديسمبر 2005).
(4) ليس فقط المهندسون، بل المثقفون يتحملون جزءاً لا ُيستهان به من التبعة في تأخرنا في مجال التراثيات والآثار، فعطاؤهم محدود للغاية في ذلك المجال، وقد سبق لي أن أكدت غير مرة على أن المجتمع الأكثر ذكاءً لا يركن البتة إلى الأطر والأدوات المتوافرة لكي يقوم بدور حماية البناء الثقافي والحضاري للمجتمع، بل يبتكر أطره الخاصة وأدوات جديدة في مجال الهندسة الاجتماعية؛ بما يجعله محافظاً ليس على (المعنوي) فحسب، بل يحافظ على (الحسي) أيضاً، ومن ذلك أن الوسط الثقافي الكوري الجنوبي قد شهد نقاشاً ساخناً حول ضرورة المحافظة على التراث والتقليد في نمط العمارة، وينتقد بعض المثقفين الكوريين الميل الكبير إلى نمط العمارة الحديثة (الغربية) ويعقدون الندوات والمؤتمرات والتي تنظمها الجامعات والمؤسسات المتخصصة.
ولم يكتف الكوريون بتأسيس المركز القومي للثقافة الكورية في عام 1951م ليتولى مهمة المحافظة على التراث الشعبي الكوري، بل أوغلوا في اهتمامهم في التراث واعتزازهم به، ومن مؤشرات ذلك وجود أكثر من 289 متحفاً، لم تؤسس الحكومة سوى عشرة منها فقط، أما بقيتها فقد اشترك المواطنون، أفراداً ومؤسسات، في بنائها. وقد ذكّرنا الأخ الأستاذ حماد السالمي بمقاله الجميل - المعنون: نخرّب آثارنا بأيدينا بتاريخ 21-1-2007م - بأن مدناً عربية كثيرة ظلت وفية لتراثها، معتزة به وذكر منها: القاهرة وفاس ومكناس وقرطاج وصنعاء، طبعاً بالإضافة إلى مدن عربية أخرى كدمشق والإسكندرية ومراكش...
وحين زرت تركيا (اسطنبول) قبل نحو أسبوعين لفت نظري أن (الأتراك) استخدموا وسيلة تقنية غاية في الاحترافية، فقد زرت حديقة (مينياتورك) Miniaturkوالتي تضم آثاراً تعود إلى 3000 سنة، وتمتد الحديقة التراثية على مساحة 40 ألف متر مربع... ومن الأفكار الجميلة أنهم وضعوا مجسمات لتلك الآثار؛ صممها فنانون مبدعون، ووضعوا جهازاً صغيراً أمام كل مجسم بحيث تمرر عليه (بطاقة الدخول أي الفاتورة) ليقوم الجهاز بقراءة (البار كود) المثبت على البطاقة ليقوم بعد ذلك بإعطائك تعريفاً مكثفاً عن ذلك الأثر التاريخي باللغة التي تناسبك (يتم برمجة اللغة المطلوبة من خلال سؤالك عنها عند دخولك للحديقة)... وأعتقد أن الإخوة في مهرجان الجنادرية يمكن أن يفيدوا من هذه التقنية الذكية في عرض الكثير من معالمنا الأثرية.
(5) أحسب أننا متفقون حول ما سبق وإن بدرجات متفاوتة، وهذا الأمر يجعلنا نشدد على أن يكون لدينا مشروع وطني للمحافظة على الآثار، مع أهمية دعم المشروع في كل مدينة بمبلغ مالي جيد، على أن ُيسهم الأغنياء والمؤسسات في إكمال التمويل، ويمكن أن يدخل القطاع الخاص في تنفيذ بعض الأجزاء في المدينة التراثية على نحو يفيد من مزايا الاستثمار بشرط عدم اصطباغه بالنظرة التجارية البحتة التي قد تحد من استفادة عموم الشرائح الاجتماعية...
وبطبيعة الحال يتطلب ذلك كله وضع خطة استراتيجية تحكم عملية تأسيس (المدينة التراثية) داخل كل مدينة، وتحدد الضوابط والمجالات؛ بحيث تعكس تاريخ تلك المدينة وتراثها وثقافتها وفنونها الشعبية وحرفها اليدوية، مع وجود قدر من الملامح أو الشرط أو المكونات العامة التي نتوقع تواجدها في كل مدينة تراثية بما لا يؤثر على نفسها الخاص، ويمكن توظيف عدد من الكبار - رجالاً ونساءً - ليعكسوا تضاريس الحياة في تلك المدينة بشكل تلقائي، مع إتاحة الفرصة للمدارس والصغار والكبار للزيارة والتأمل والاستكشاف والاستفسار، وأرى ضرورة تخصيص بيوتات شعبية متنوعة وبمقاسات مختلفة للتأجير اليومي، وسأكون أنا وعشرات غيري من أوائل المستأجرين!
وسيكون لذلك المشروع انعكاسات ثقافية حضارية واقتصادية واجتماعية... حينها نستعيد طرفاً من أطرافنا؛ فقدناه في يوم بئيس، ونعثر على أشيائنا الأثيرة على نفوسنا، وحينها نصون ذاكرتنا الجمعية وننضم إلى القافلة الإنسانية التي تحافظ على تراثها العمراني والحضاري وتعتز به!