النظريات النقدية والفنية عبر التاريخ أبدت اهتماما كبيرا بالنص والمؤلف وهمشت القارئ إلى حد ملحوظ وجاء المسرح ليجاريها بتهميش المتفرج رغم أن من أجله تكتب النصوص وتنجز العروض المسرحية وبدونه لا تكتمل حلقة أي عمل إبداعي، فالنص لا قيمة له بدون القارئ وعليه فإن فعل القراءة الذي يمارسه القارئ صار ذا أهمية بالغة ويتم استحضار المتلقي عند الشروع في الإعداد لعمل ما حتى يحضر فإذا ما حضر كقارئ أو متفرج ((في المسرح)) انتهى دوره على الرغم من أن كل قراءة هي في حد ذاتها إضافة وإغناء لمتن النص المقروء والمشاهد. وقد تسللت النظرة الماركسية الأحادية إلى الساحة الثقافية فأقصت المتلقي والقارئ والمتفرج على الرغم من أن هناك موقفا تاريخيا مهيبا أكد على أهمية المتلقي ودوره في الفعل المسرحي، حدث في مسرحية (أوديب ملكا) للشاعر الفحل سوفوكل والتي يعتبرها الكثيرون من أعظم ما تركه لنا اليونان من آثار مسرحية إلا أنها لم تنل شرف الفوز في مسابقات أعياد (ديونيزوس) وذلك لأن الجمهور رشح مسرحية أخرى (لفيلوكس) ومارس سلطته التي آمنت بها (الديموقراطية الأثينية).
في بعض المنافسات الشعرية كشاعر المليون يستكثر أكثرنا مشاركة الجمهور في التصويت ويرون ذلك الفعل غير موضوعي لأن الأمر يجب أن يحال إلى متخصصين في هذا المجال ويرون أن الجمهور يمارس التمحل والاعتساف دون وعي متناسين أنه يمارس دوره الطبيعي وإلا فلماذا نصمه بعدم الاهتمام عندما يغيب ونتحسر على ذلك الغياب بل قد نرى غيابه مؤشرا على عدم الوعي.
هذه المحاولات لإدماج المتلقي ومشاركته في العرض تأتي حينا كما في (المسرح التفاعلي) الذي برز على يدي البرازيلي (أو جستو بوال) وتحضر أحيانا في بعض الأعمال من خلال تحلق عدد من الجمهور على الخشبة حول الممثلين وقد حضر في بعض (عروض الأطفال) على استحياء لكنه لا يمثل نسقا عاما ولا ممارسة سائدة، لكن المقصود بالتلقي المسرحي هنا تلك المشاركة إضافة إلى صورة أخرى سوى المشاركة الفعلية في العرض مثل (قراءة النص ونقده - والاندماج معه وجدانيا والاعتراف بجودته وإعادة هيكلته ونحو هذا).
اهتمام المسرحيين ب(جمالية الإنتاج) جعلهم ينسون أو يغفلون إلى حد بعيد ما يعرف (جمالية التلقي) والتي لم تظهر كمصطلح إلا منذ عهد قريب جداً، وقد أفادت كثيرا من مدرسة (كونسطانس الألمانية) ومن مفاهيمها وأدواتها الإجرائية ومن بينها ما يعرف بأفق الانتظار attent horizon الذي يعرفه هانس روبير ياوس بقوله: إن أفق الانتظار لدى جمهور معين يعني النظام المرجعي... المنبثق عن ثلاثة عوامل أساسية: أولها معرفة الجمهور القبلية بنوعية الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه هذا العمل. وثانيها شكل وتيمة الأعمال السابقة التي يفترض معرفتها في العمل. وثالثها التعارض بين اللغة الشعرية واللغة التطبيقية وبين العالم المتخيل والعالم اليومي. واستنادا إلى ياوس حاول كيرايلام تحديد أفق الانتظار - أو أفق التوقع - في علاقته بالمسرح قائلاً: (إن إدراك المشاهد المعرفي للإطار المسرحي ومعرفته بالنصوص والقوانين النصية والاتفاقات يشكلان بالإضافة إلى إعداده الثقافي العام وتأثير النقاد والأصدقاء وغير ذلك ما يعرف في علم جمال التلقي بأفق التوقعات الذي بواسطته يتم قياس المسافة الجمالية التي يولدها العرض في ابتكاراتها وتعديلها للتوقعات المستقبلية).
وإذا كان (كروتوفسكي) قد خلخل الكثير من ثوابت المسرح عندما قال بأنه يمكن في المسرح الاستغناء عن الضوء والصوت والمؤثرات والسينوغراف والخلفيات والأزياء لكن لا يمكن الاستغناء عن الممثل كذلك فإنه يمكن الاستغناء عن العلبية الإيطالية فيما لا يمكن الاستغناء عن المتلقي الذي يشكل محور التسمرح مناصفة مع (الممثل) لكن هذا التوزيع لايطبق على أرض الواقع فدور المتلقي سلبيا فيما دور الممثل محوري وبمجرد انطلاق العرض يكون لكل من الممثل والمتفرج دور ما ومهمة محددة لكن الاختلاف يظهر في أن الممثل وظيفته نوعية أما المتفرج فوظيفته كمية بحيث يمكن استبداله بمتفرج آخر أما الممثل فمحور رئيس في العرض وهذا التوزيع غير العادل يجعل المطالبة بإعطاء المتفرج دورا أكبر يستحقه من منطلق أنه لاعمل ناضج ومكتمل دون متلق ولا معنى لأي عمل مسرحي يقام دون جمهور يشاهده ويتفاعل معه ويمارس سلطته النقدية تجاهه ولذة التأويل والتفسير وبفضل صيحاته وشغبه ونقده يتنبه فريق العمل المسرحي على مكامن القوة ونقاط الضعف وهو بهذا يخلق الفرجة كما يخلقها المخرج المسرحي تماما ويعيد تركيب العرض على كافة المستويات الأفقية والعمودية والمحورية ويصبح المتفرج مضطرا لتتبع الحكاية بل يهتم بإعادة تركيب كامل اللوحة المسرحية وكل مايتعلق بالعرض المسرحي (كما ترى آن أوبر سيفيلد).
بقلم: ناصر العمري- المخواة
bmw-6060@hotmail.com