تتردد كثيراً عبارة الحداثة وما بعدها يبحث النقاد فيها عن ما يمكن أن يحدث في مستقبل الفنون التشكيلية أكثر مما هي عليه الآن من تخبط وتبعثر وتزاحم بين من يستحق أن يعترف به كفنان حقيقي وبين من يرى في ما يقدمه كسراً للحواجز وفتح الأبواب على مصراعيها للجميع؛ فالفن بمفهومه الحديث تعبير عن مشاعر يحق للجميع ممارسته والشاطر من يمتلك الشجاعة ويعرض حتى (الروث الآدمي) كما شوهد في أحد المعارض الحديثة في أمريكا.
أتساءل في ظل هذا الواقع المتسارع نحو طمس حقيقة الإبداع واحترام الذائقة وملامسة الوجدان بحالته الفطرية وليست المقولبة ما ستكون حال أعمال روفائلو أو دافنشي وماذا عن ابتسامة الموناليزا التي أجزم أن مبدعها سبق زمانه ليجعلها بتلك الابتسامة تهزأ بحال الفن التشكيلي الحالي وتتأسى عليه.
إننا في عصر المفاهيمية، وما تولد عنها من أنماط تمثلت في، فنون الأرض، فنون الجسد، التصوير الفوتوغرافي.. الخ، أو ما طرأ من تعامل مع الصورة عبر برامج الفوتوشوب والميكروفيلم والفيديو والكومبيوتر، واستخدامات الناسخات، كالسكاينر وخلافه، التي جذبت الفنان إلى قوالبها ونتائجها شبه الجاهزة.
هذا التحرك الكبير والمتسارع في ما أطلق عليه فنون الحداثة وما انتهت إليه ليبحث صناعها عن ما بعدها من إماكنات تبقيها على الواقع بعد أن تبين عدم قدرتها على البقاء؛ فغالبية مثل هذه الأعمال تنتهي بنهاية المعرض بمعنى أنها ليست متحفية قابلة للعرض أكثر من مرة أو يمكن تخليدها.
من أتيحت له الفرصة في الاطلاع على جديد المعارض الحديثة قد يتبادر إلى ذهنه أن يدخل مستودعاً للخردة أو مختبرات لمخترعين ومبتكرين لصناعات معينة لا زالت في طور التجريب أو تجميع قطع لألعاب إلكترونية وإن تماديت في الجولة فسترى أموراً عظيمة، من بقايا مخلفات سوبر ماركت أو نفايات مصنع للأثاث، ابتداء من العلب الفارغة مروراً بإطارات السيارت التالفة وعظام لبقرة نافقة وأكوام صغيرة من الرمل غرست بها قطعة حجارة وأسلاك، كراسي وألواح وفردة حذاء عامل بناء لا تزال بقايا الأسمنت بادية عليها وبراميل طليت باللون الأسود إلى آخر المنظومة أو ما يمكن اعتبارها سياط تجلد الذائقة، كل ذلك بما اجتهد فيه أصحابه من تشكيل وإعادة صياغة وتوظيف لتلك العناصر يهدف إلى إطلاق العنان والتحرر من كل السبل المتعارف عليها في إنجاز العمل الفني التقليدي التي كنا ولا زلنا نشاهدها من إبداعات الفنون السابقة، ومع أنني أصدم عند مشاهدتي لمثل هذه الأعمال إلا أن لدي الاستعداد للتأقلم سعياً لاكتشاف الذات وتفعيل قدرتها على فهم الجديد وتعويدها على مثل هذا التحول لمعرفة ما في هذا العالم وإعدادها لكل جديد يفوق الحاضر وإلا سأصاب باختلال في الرؤية والرؤى.
monif@hotmail.com