كنت وما زلت أحاول فهم سر ذلك الاهتمام الملحوظ بلبنان من قبل كثير من المثقفين وكتاب الصحف، فيكاد بعضهم يعرف في الشأن اللبناني أكثر من شؤون بلاده، ويخوض في مسائل سياسية واجتماعية وطائفية لبنانية شائكة، ويدعو زعماءه للتوقف عن اللعب بالسياسة من أجل استقرار البلد، وقد غاب عن هؤلاء أن السياسة لعبة يتفق عليها جميع الأطراف، وزعماء لبنان اتفقوا منذ زمن بعيد أن تظل صناديق الاقتراع تدعمها حقائب المال وتحرسها فوهات المدافع..
هو مجرد تساؤل لا أكثر، ولا يجب أن يُفهم سلباً، لأن الكاتب يكتب من خلال اهتماماته وحريته التي يتمتع بها، ولعل لبنان يحظى باهتمامات كثير منهم، وكنت أتعجب على سبيل المثال لماذا لا يكتبون عن الصومال ذلك البلد الذي مازال ينزف دم أبنائه على الطرقات، ولم يجد من يهتم به أو يحاول فتح نافذة على معاناته التي مازالت مستمرة لأكثر من عقدين من الزمان..
تكثر عادة المقالات عن لبنان في الصيف، وتتحد الجهود من أجل استقراره من أجل موسم سياحي ناجح، واهتمام السعوديين في قضاء موسم الإجازة السنوية في لبنان ربما كان أحد الأسباب المهمة لذلك الاهتمام، بالإضافة إلى استثماراتهم، لكن حسب رأيي يوجد في القضية أكثر من محور، فالهجمة السياحية السعودية على لبنان وهروبها من مصائف البلاد التي تتمتع ببرودة وطقس معتدل قد يأخذنا إلى النظر في المسألة في اتجاه آخر، فما يحدث هو في واقع صراع بين الحياة على الطريقة اللبنانية غير المحافظة ونظيرتها السعودية المحافظة على مختلف الأصعدة...، كانت أول محطات الصراع إغلاق مكاتب قناة البي سي في المملكة..
يظهر الصراع بين ذلك الاتجاهين بصورة واضحة جداً في الإعلام، فالمشاريع الإعلامية السعودية الخارجية انهزمت مبكرا عندما نجح العنصر اللبناني بحيويته وميله الجارف لإظهار الفن والجمال في اكتساح الوجه الإعلامي السعودي الخارجي، بينما تلك الصفات الضرورية في إعلام اليوم لا تزال تُصنف في المجتمع السعودي على أنها تبرج وسفور وفساد..
يزخر واقع الصراع الحالي بمختلف الوجوه إذ تزخر أراضي لبنان بمختلف المشاهد، فيظهر السعودي والسعودية اللذين انهزما أمام مظاهر الإغراء اللبناني بكامل فصول زينة الحياة على الطريق اللبنانية، بينما تجد عائلات سعودية في مظاهر محافظة جداً، وصامدين أمام التغيير، ولم يتنازلوا عن لباسهم التقليدي خارج وطنهم، لكن قد يعتبر اختيارهم للسياحة في لبنان الخطوة الأولى في لبننة أولادهم، والذين سيتكيفون إذا استمرت رحلات الصيف إلى لبنان..، الغريب أن تأثير لبنان على المجتمع السعودي كان أكثر من تأثير البعثات الى الغرب في الثمانينيات، فقد عاد كثير من المبتعثين أكثر تديناً من قبل ابتعاثهم، ولعل السبب كان تأثر الصحوة الدينية القوي في تلك الفترة، لكن الزمن الحاضر أخفى قوة الصحوة الناعمة في المجتمع، وخلت الساحة بكل زواياها لقوى التغيير..
كنت قد تساءلت يوماً عن تأثير موجات السياح السعوديين على لبنان، هل سيكون للمد السعودي السياحي تأثير ديني على لبنان، وخاصة أن السعوديين دائماً ما يتركون أثراً في البلاد التي يذهبون إليها.
الجدير بالذكر أن أكثر الأماكن جاذبية للسياح في لبنان هي مناطق المسيحيين والدروز، بينما يكاد لا يذكر أي تواجد للسياح في مناطق طرابلس السنية والجنوب الشيعي.. لذلك أجد أفضل وسيلة لوقف انتشار الحياة على الطريقة اللبنانية دعوتهم إلى تغيير نمط حياتهم المغري، والذي أصبح يهدد المحافظة السعودية في عقر دارها!، والدليل الهروب الجماعي للسياح السعوديين، وذلك الاهتمام الثقافي بلبنان وسياسته وزعمائه واستقراره في الصيف..!!