التوازن بين العقل والعاطفة هو الركيزة الجوهرية لتوازن الذات التي يتعذر أن توسم بالنضج في حالة طغيان أحدهما على الآخر. الاعتدال مطلب حيوي ولكن يتعذر إطلاق هذا النعت على إنسان ما عندما تنخفض درجة تماهيه مع الأبعاد العقلانية ويكون خاضعاً في مجمل سلوكه العام لانفعالاته وغرائزه ومكوناته الوجدانية.
وأيضاً لا يمكن أن يوصف بالاعتدال ذلك الذي علا مستوى تجاوبه مع إملاءات ملكاته العقلية ولكنه مصاب بجمود عاطفي فقد على أثره عنصراً حيوياً من عناصر التقارب مع الآخرين، الشأن الذي أحاله إلى جلمود من الصخر! إذاً التّماس التكاملي بين البعدين هو الملمح الجمالي الذي يضفي على الشخصية قدراً رحباً من النضج ويضيف إليها الكثير من المنطقية الآسرة, هذه الشخصية بمستوييها: العقل كمركز للتفكير والإبداع, والعاطفة كزاد روحي تتعسر الحياة في حالة عدم استصحابه, هذه الشخصية بجناحيها تحتاج إلى لون معين من الخطاب وهو ذلك الذي يقوم في طبيعة تركيبه الثقافي على مراعاة البعد الازدواجي في الشخصية وعلى ضوء المكوّن الثنائي لها، ولذا فهو يجمع بين الثقافة البرهانية والثقافة الوجدانية، فهما جنباً إلى جنب في ثنايا هذا الخطاب إبان اشتغاله على تثقيف الأمة. فهو من جهة يتناول القضايا بالتحليل الفكري العقلاني نائياً عن دوائر الوجدان ويطرح البراهين العقلية في شؤون الدين والفكر وما يتعلق بوجود واجب الوجود وما يرتبط بالمعاد واليوم الآخر. ومن جهة أخرى فإنه يتماس مع جوانب الشعور ويستجيش العواطف ويثير كوامن القلب في أمور الإيمان وعلاقة الإنسان بالمحيط الذي يعيش فيه وعلاقته بأخيه الإنسان. حينما يتنكر الخطاب الترشيدي للمسة الوجدانية ويخرجها من دائرة تناوله فإنه بذلك يمارس إجحافاً بالإنسان وإهمالاً لما تنطوي عليه جوانحه وإقصاء لمكوّن محوري من مكوناته، أضف إلى ذلك أن طرح الرؤية بآلية عقلية صرفة مع عدم إضفاء أية مسحة عاطفية قد يحول دون تسللها إلى الحس واختراقها لجدار السمع فضلاً عن استحالتها إلى قناعة متأصلة يكون لها امتداد عملي. إن إضفاء الشحنة الوجدانية على خطابنا العقلي تفضي إلى توازن إيقاعه وبراعة إقناعه ومضاعفة رصيده الجماهيري. وبحكم طبيعتها فالأوساط الجماهيرية بفعل كسلها العقلي تنشدّ للطرح العاطفي وتنساق له لأنه يدغدغ مناحيها الوجدانية وفي المقابل تستثقل الطرح البرهاني وتنفر منه, لكن لا يعني هذا الانحباس في المجال العاطفي، فهذا له إفرازاته المتناهية الخطورة والتي أرقم شيئاً منها على سبيل الإجمال:
أولاً: الخطاب العاطفي يسهم في بناء شخصية مختصرة في وجدانها مهمشة في مجال الملكات العقلية على نحو يرشحها وبجدارة لتداعي تماسكها أمام التيارات المتصارعة وتكون عرضة للاهتزاز في زمن توقد الخلافات. مثل هذا الضرب من الشخصية يكون محكوماً بروح إمعية, تحكمه في العمق, لا يستطيع جراءها أن يتخذ قراراته بشيء من الانفرادية والاستقلال, ويتعذر عليه التخلي عن شيء من بديهياته الرؤيوية, إنه يميل إلى التفكير التماثلي الذي لا يخرج عن خطوط الجماعة ولا يتجاوز سقفها المحلي.
ثانياً: الخطاب العاطفي لا يفرز في قصارى مخرجاته إلا كائنات معدومة التفكير, فهي لا تفكر, وإن فكرت ذات صحوة ما فإنها تمارس التفكير بطريقة مشوهة جداً، فهي تتفانى في أن يكون تفكيرها متماهياً إلى حد عال مع (النحن) الكلية ومماثلاً تمام المماثلة للمألوف ومتقاطعاً مع السائد، فالجميع هنا يفكر بطريقة واحدة ويعاينون الأشياء من منظور واحد ويتعاطون مع القضايا بأسلوب واحد, إنهم عبارة عن نسخ كربونية مكررة تتطابق مع بعضها. هنا يستحيل البشر إلى مجرد هياكل لحمية لا يختلف الفرد عن غيره إلا باسمه الذي يميزه, وبسحنته التي تدل عليه, وحينئذ تخنس الفردانية ويتوارى التنوع لصالح الاتساق الهش والتوحد الموهوم, على نحو يحيل المجتمع إلى قطيع بهيمي من الأجساد المتراكمة المفتقرة لفضيلة التلون. إن التنوع في إطار الوحدة مطلب جوهري، فهو منبع للثراء والإبداع, ومصدر لتوفير خيارات كثيرة. في ظل التماثل تبيت الحياة عقيمة, وتفقد القدرة على الإنجاب. في حين أن التغاير يمثل سر الحياة الولود النامية, وخصوصاً إذا جرى التعاطي مع ذلك الاختلاف على نحو إيجابي, وتم عزل إفرازاته السلبية -أو على أقل تقدير- التحجيم من آثارها.
ثالثاً: الخطاب العاطفي قد يجري توظيفه من قبل بعض القوى لحجب الحقائق عن الوعي الجمعي - على نحو يراد له التسطيح - وممارسة ألوان من التدليس عليه بغية النأي به عن المتن ودفعه نحو هامش الحياة والعيش في سياقات لا تخدم غاية وجوده وأشغاله بسفاسف سوقية مبتذلة ليست ذات بعد محوري, بل وليست من ضرورات التجمع الإنساني! كثيراً ما يجري تهميش العقل تحت ذريعة أنه مظنون به على غير أهله! ويتم العزف على وتر العاطفة العامة إرهاصاً لتهميش الأمة وتقزيم فاعليتها وتعويق حركيتها, وتجهيلها بطبيعة دورها وإدخالها في غيبوبة ذات طابع سرمدي لا تعي إثرها ما يدور حولها في المشاهد كافة, كما هو واقع الحال في أمتنا العربية والتي يحركها (شعور) ويستخفها (شعار).
إن الدندنة المكثفة المتمحورة حول الأبعاد الوجدانية لا توجد مجتمعات ناضجة متفتحة مؤهلة للرقي بقدر ما تفرغ المجتمعات من عوامل قوتها وتُقفر واقعها من المفردات الحاثة على الإنجاب وتغنيها ببواعث التخلف التي تقصيها إلى خارج التاريخ. مجتمعات بهذا الشكل ستقع وبسهولة أسيرة لبريق الشعارات إلى درجة أن الإنسان في بعض الأوساط يُختزل بمظهره وجانبه الشكلي, إنه يُختصر أحياناً بشَعره, كشعار يُعتمد لتجميل السلوك العام مهما كانت فظائعيته! فشَعره ومواصفاته المظهرية تتحدد تراتبيته في السلم الاجتماعي!
وحاصل الكلام: إنه يتحتم على الخطاب الثقافي الديني المسكون بهاجس الفاعلية كي يتفادى الوقوع في شرَك الوجدان وانفعالاته ويتحاشى جمود العقل وصرامته أن يكون على قدر عال من الاتزان الذي يجمع بين البرهان كأساس للخطاب, والوجدان كرداء له.
Abdalla_2015@hotmail.com