لم تعد المعرفة كما كانت من قبل منظومة مستقلة عن الشأن الاجتماعي والحياتي، وحقلا بعيدا عن حقول الاقتصاد والسياسة بل أصبحت في هذا العصر تُشكل واقع الشعوب وتُحدد مركز الدول في خارطة العالم، إذ تحولت إلى مصدرٍ أساسي من مصادر القوة والثروة لا يقل أهمية عن الموارد الطبيعية والموقع الجغرافي، وقانونا من قوانين اللعبة السياسية.
ولهذا كانت أول آية نزلت في القرآن الكريم هي (اقرأ) في إشارة إلى أن الحقبة التاريخية القادمة سوف يكون العلم فيها عاملا أساسيا في بناء الحضارة ونهوض الأمم، لا كما كان من قبل إذ كانت القوة الجسدية والكثرة هي عاملَ الحضارة الأول، وكان العلم آنذاك شكلا من أشكال الترف العقلي والفكري يجدفُ في أكثر أحايينه بعيدا عن شواطئ المجتمع ودنيا الناس، ويُوصَم أهله بالهرطقة والابتداع.
فهذا التحول في عاملِ الحضارة جعلنا نلحظ أن الدول القوية اقتصاديا وعسكريا على مستوى العالم هي في الوقت نفسه أكثرَ الدول اهتماما بالعلم والمعرفة وأكثرَ إنفاقا على دعمهما وتطويرهما، فأمريكا مثلا تنفق في البحث العلمي سنويا 2.5% من ناتجها المحلي، والدول الأوربية 2%، واليابان 3%، أما في العالم العربي فإن العلم عندنا يقبع في ذيل سلم الأولويات ويعاني من التهميش والإهمال، فإنفاقنا على البحث العلمي يقدر ب0.2% من الناتج المحلي، وهذه النسبة الضئيلة كفيلةً بوضعنا في قائمة الدول المتأخرةِ والمتخلفةِ علميا وحضاريا، الناتجة عن عدم تقديرنا العلم وأهميته. أضف إلى معدلات الأمية المرتفعة في دولنا العربية مقارنة بدول العالم وانخفاض نسبة من يكملون تعليمهم من الشباب، وكذلك عزوف الفرد العربي عن القراءة عزوفا مؤسفا إذ تشير إحدى الإحصائيات إلى أن معدل قراءة الفرد العربي سنويا (ربع صفحة) في حين أن المواطن الأمريكي (11 كتابا) والبريطاني (7 كتب) في العام.وثمة خلل في نُظُم التعليم في عالمنا العربي القائمِ على التلقين والتحفيظ، وعلى حشو أذهان الطلاب بالمعلومات الجافة حشوا كما لو كانوا أجهزة حاسوب، بعيداً عن خلقِ جوٍ معرفي وعلمي يستثير فضولهم ويحببهم للمعرفة ويجعل من عملية التعليم عمليةً تفاعليةً يشترك المدرس والطالب في بناء المعلومة ويتبادلون تجليتها وتقريرها مما يحفز مهارات الاستنتاج لديهم ومهارات التفكير الإبداعي والنقدي، أضف إلى تعميق استيعابهم للمعلومة وتوسيع مدى فهمها مما يضمنُ بقاءها وحضورها وسهولةَ تعاطيها واسترجاعها، فالمعلومة التي تُؤخذ بالفهم لا بالحفظ وبالعقل لا بالذاكرة هي التي تبقى لفترة أطول وليست تزول فور انتهاء الطلاب من الامتحانات.
وفي سياق الحديث عن أزمتنا المعرفية تَبرزُ لنا قضية وجود المعرفة في إعلامنا العربي، ومساحتها الضيقة وشبه المنعدمة في المادة الإعلامية العربية، والنصيب الأكبر في الإعلام هو للترفيه والتسلية (التي في غالبها مستوردة لحسن الحظ)، أما المواد العلمية والثقافية فتكاد تنعدم وإن وجدت فهي ضعيفة وغير متجددة، ولا أنكر في الحقيقة أن التلفاز في أصله هو جهاز ترفيهي وغالبُ من يفتح التلفاز يبحث عن المتعة لكن هذا الطغيان الترفيهي المغرق الذي يضرب على وترِ الأخلاق والقيم ويدمر السياج الديني والثقافي هو الذي يدعو للقلق، فإذا كانت نسبة قنوات الرقص والكليبات في الإعلام العربي تربو على الخمسين بالمئة من القنوات هنا المشكلة.
هذا هو حال عالمنا العربي مع العلم الذي يُشكل في حقيقته (أزمة) و (مشكلة) تُحتم علينا وقوفا جادا وفعالا لمعالجتها وحلها، ووضع السبل والتوصيات لإصلاحها وتعديل وضعها، فيكفينا ما مضى علينا من الجهل والانحطاط منذ زمن طويل وقرون عديدة ونحن مازلنا خاملين، في حين أن أمتنا كانت أمة العلم والمعرفة وتاريخنا يزخر بصحائف مشرّفةٍ من علومٍ أسسناها أو طورناها، ومن علماء سارت بشهرتهم الركبان وذاعت أخبارهم في الآفاق.
فالدين الإسلامي يحث على العلم والتعلم حثا لا نظير له في الأديان الأخرى، ويعطي العلم منزلة وفضلا عظيمين.
والأهمية تكمن في أن العلم اليوم يتطور تطورا ديناميكيا سريع الإيقاع، وتشير إحدى الدراسات إلى أن المعرفة العالمية تتضاعف كل عشر أو سبع سنوات، والإشكالية الأخرى في أن المعرفة بطبيعتها عملية تراكمية تتابعية تنمو بشكل رأسي، وتتزايد تعقيدا وعمقا مع مرور الوقت وهذا يعطي القضية بعدا حرجا ومكمن خطورة يتطلب حلولا سريعة وحاسمة تأخذ الأمر على محمل الجد والمسؤولية، إذ كلما تأخرنا في خوض غمار المعرفة وركوب مركبها كلما ازدادت الفجوة بيننا وبينها وصعب ذلك علينا وازداد تعقيدا وكلفة، وأصبح من العسير علينا وشبه غير الممكن المشاركة في صناعتها وبنائها.فلذلك نحن أمامَ تحدٍ كبير يواجهنا ويتحدد في إطارين مستلزمًا منا المبادرة: في ديناميكية المعرفة وتسارعها، والثاني يكمن في (ميكانزما) المعرفة وتراكميتها.ولعل أول مهمةٍ تبرز لدينا في سياق الحلول هي أن نتخلص من عقدة النقص وضعف الثقة بالذات التي تلازم الفرد العربي وتحد من عزيمته وتقيد نشاطه، والإحباط الذي يجعلنا غير متحمسين وغير متفائلين إزاء كل فكرة أو مشروع تنموي جديد.لذلك من المهم ابتداءً أن نُغير نظرتنا لأنفسنا ونجعلها نظرة ايجابية نغلق فيها ملف الماضي بهزائمه وإخفاقاته ونفتح باب المستقبل المشرق الواعد.وأول ما نبدأ به هو معالجة أسلوب التعليم لدينا وتطويره، وتغيير طُرُقهِ العتيقة ونظامه التلقيني الجامد، وجعله ينتج لنا عقولا منتجة لا عقولا مستقبلة، أضف إلى تحبيب الطلاب للعلم والمعرفة وإشباع فضولهم ودعم أفكارهم وإبداعاتهم.
وكذلك تغيير نظرة المجتمع للتعلم، تلك النظرة (البراغماتية الضيقة) التي تجعل منه أداةً لنيل الوظيفة وكسب الرزق فحسب.وليس للرقي بالأمة وبناء حضارتها وتحقيق نهضتها.
وعلى الصعيد العام يجب حثُ المجتمع على القراءة والاطلاع، وإنشاء نواد للقراءة تتبناها مؤسسات المجتمع المدني تنشر الكتاب بين الناس وتشجعهم على القراءة وعلى ارتياد المكتبات، وكذلك غرس حب القراءة في نفوس الأطفال وتعويدهم عليها ونشر الكتب التي تناسبهم وتجذبهم، ودعم ذلك ماديا ومعنويا وإعلاميا.
ولاشك أن الأفكار والأطروحات في تطوير واقع المعرفة لدينا كثيرة ومتنوعة، لكن ما نحتاجه هو البداية الفعالة والجادة من القيادات ومن الشعوب على حد سواء، بدايةً تعتزم الإصلاح والتغيير وتلتزم العمل والجد.
وأخيرا فإن تحقيق المعرفة في واقعنا العربي وجعل مجتمعاتنا مجتمعاتٍ معرفية مثقفة ليجعلنا أكثرَ رقيا واستقلالاً وأقلَ مشكلات، وأنضجَ عقولاً وأفهاما وأكثرَ انتماءً وفخراً بديننا وهويتنا.
ngedan@gmail.com