(السيف أصدق أنباء من الكتب)، صدر من بيت شعري يستفزني، لا أحبه ولا أستسيغه ولا أستهويه بشكل دائم، ولكنني أحتفظ به ولا أرميه جانباً في حاوية النفايات كمثل قطعة أسمال بالية. فالسيف عندي قليلاً ما يكون عادلاً ومُنصفاً، وقد يعجز عن استئصال الأشياء،
لكن (الفكرة) عندي هي التي تصنع الأشياء وترسخها وقد تحييها أو قد تقتلها أو تتلفها أو تفتنها. إن للسيف وميضاً وشعاعاً وبارقة وله وقع وشدة، لكن للكلمة أيضاً وقعها وشدتها وحربها ورصاصها وتوهجها وسرها. إن الخوف الأزلي هو الذي جعل السيف أصدق أنباء من الكتب بعيداً عن جمالية الفكرة وأسلوب الحوار ومبدأ النقاش. إن ثقافة القتال ونزعة الحرب واسترضاء التضاريس وهاجس العدوانية والنقص الثقافي والتحريض والتعبئة العدائية والترويج للعنف والكوارث وتصفية الحسابات البينية، هو بالضبط الذي أوجد شعراً كهذا كمبدأ صارخ للحرب والدم والتمرد والمشاكسة بعيداً عن قيم الحوار والفكرة والنقاش. إن (الفكرة) يقيناً تستطيع أن تحول أكوام الخراب إلى حقل فسيح من الزهور، إذا ما وُظفت كأداة تثقيفية وأخلاقية وسوف تنبذ الإحباط والتشاؤم. إن اجتثاث لغة العنف والقتل والدم من قواميسنا الأدبية ومهرجاناتنا الثقافية العربية سوف يساعد كثيراً على هدوء الموقف والرؤية المتزنة والبعد عن التناقضات والتباينات الفكرية العارمة. إن دور المثقف اليوم سواء كان شاعراً أم كاتباً أم قاصاً هو أن يخرج بالإنسان العربي من دائرة الهوس الجنوني الذي يضرب عقله ويهدد حاضره ومستقبله، المتمثل بالنعرات الطائفية والتناحرات القومية والتنابزات القبلية والمضاربات الحزبية والركض وراء المصالح الفردية والفئوية وحب الذات والغوغائية والعدوانية. إن المثقفين العرب أياً كانت اتجاهاتهم الفكرية ومعطياتهم الأدبية أمام محك تاريخي مهم وصعب، وعليهم أن يعملوا على أن يظهروا منتجاً ثقافياً جديداً، خالياً من التحدي والعنتريات وصليل السيوف التي لم تجلب لنا سوى السم الزعاف والهزائم المتتالية والتشتت والانقسام والتشرذم الجنوني، وعليهم أن يثوروا على كل ما من شأنه أن يمزق النسيج العربي الموحد ويشتت أوصاله من نعرات طائفية بخسة وتصرفات غير مسئولة تهدد قدسية العرب أرضاً وتاريخاً وديانة. إن على أصحاب الثقافة والمنشغلين بها ألا يحرضوا ولا يشجعوا على العنف والتمرد، بل عليهم أن يثبتوا أن اختلاف الرؤى والأفكار وتباين الأهواء والطموحات ما هو إلا نسيج صلب نشط وحي، تنشأ على أسسه وحدة العرب وبقاؤهم ولحمتهم. إن الأوطان العربية اليوم بحاجة ماسة إلى من يواسيها ويمسح دموعها ويضمد جراحها ويشد من أزرها على تحمل المصائب والمحن التي تواجهها، لا إلى من يغذي التطرف والتذمر والغوغائية والتمرد والعصيان. إن الأوطان العربية تحتاج إلى من يطفئ لهب الحقد والكراهية وحب الانتقام، لا إلى من يؤجج التناحر والتباعد والتنابز والتضارب وإحياء العصبيات وشحن النفوس ببغضاء وحقد أسود مقيت. إن على المثقفين العرب أن ينبذوا بجد وبوتيرة عالية ثقافة (السيف أصدق أنباء من الكتب) ليحولوها إلى ثقافة (الكتب أصدق أنباء من السيف)، لأننا لا نريد أن نحترق ونتخلف لمئات سنين قادمة، ولأننا نريد أن نكون كاليابانيين الذين خرجوا من الحريق والرماد بعزيمة تامة ليصبحوا بعد أن نبذوا لغة الحرب والتحدي والعنجهية والتمرد إلى دولة صناعية علمية عملاقة وفذة.
ramadan.alanazi@aliaf.com