أُنزل القرآن في (رمضان).. وصاغ منه رسول الهدى والنور.. مسالك باتجاه التقوى.. وأسس من خلاله قيم العمل والتعامل.. وشهدت سيرته المطهرة على أن (رمضان)، موسم تتطهر فيه الروح من آثامها.. وتُنقى فيه الجوارح من ذنوب رسختها العادة.. واقترفتها الذات.. بدافع من المغريات والشهوات..
** كان أجود ما يكون في (رمضان).. عبد وتبتل وجاهد وهدى.. ولكن ذلك (الرمضان) في صورته النقية المثالية الأولى.. التي جسدتها السيرة النبوية قولاً وفعلاً.. ليس هو في زمننا الجميل.. وكأن ثمة تواطأ على تقويض (المعنى).. وتفريغ الشهر من أهدافه العلية.. ومقاصده السنية.. على الرغم من تركيز الخطب والخطباء.. على خطر الذنب فيه.. وعظم الأجر للصائمين القائمين.. وكونه مطهرة من الخطايا.. وفرصة للمراجعة, والاستزادة من أعمال البر... الخ
** إلا أن ما يمس الشعور ويتجلى في السلوك (من ذلك) قليل.. انكباب على شهوة الطعام والشراب.. والتفنن في أطايبه وصنوفه.. وإفراط في تحويل (رمضان) إلى موسم لاستهلاك واقتناء ما له حاجة وما ليس له.. وقلة عمل وتدني التزام بالواجبات الوظيفية.. ناهيك عن سعار المسلسلات والملهيات من برامج المسلاة.. والمسابقات الفكاهية العيية.. مما يُغيب المقاصد الشرعية العلية للصيام.. ويفرِّغ الشعيرة من كل معنى.. غير التوقف عن الطعام والشراب في النهار!
** حتى الراسخين في العلم الشرعي.. صار الشهر ل(بعضهم).. مناسبة لتحصيل مزيدٍ من أعداد المشاهدين.. بحثاً عن مكسب دنيوي.. ومجد شخصي.. دونما تأصيل للقيم الإسلامية وتحرير مفاهيم.. تعيد تأسيس معنى الصيام في وعي الناس.. وتحفز لجوانب التقوى والصلاح الحقيقيين.
** إن في (السيرة النبوية) لملجأ وملاذ لمن أراد الاقتداء والتأسي.. شرط أن يكون السلوك النبوي الكريم كلٌ متماسك.. ومنهج متكامل.. يأخذ بعضه بأجزاء بعض.. عبادة وعمل.. وتدبر وتفكير.. وقنوت واجتهاد وإنجاز.. هكذا كان عليه الصلاة والسلام.. نموذج وضيء.. لمعنى الامتثال للتوجيه الرباني وتعبير مسلكي عن قيم الصيام وأهدافه..
** ومما يعبر عن تغييب هذا (المثال الرفيع).. أن الجوانب السلبية التي أضحت تضرب مواعيدها في رمضان.. لا تتطلب من المتأملين مزيد تدبر لما آل إليه الناس، فهم لا يختلفون على التسليم بها أو الامتثال لسيرورتها، فيما يتساجلون كثيراً عن أيهما أولى في تحديد وقت دخول الشهر.. المراصد والحسابات الفلكية .. أم الرؤية المباشرة وبزوغ الهلال..؟ وأي القنوات أكثر استئثاراً بأوقاتهم... وتبديد أرق الصيام عنهم.. وإنعاش أمزجتهم...؟ وتصبح مثل هذه القضايا هي محط شغلهم.. ومشهد اختلافاتهم.. فيما يكمن الداء وعوارضه.. فيما بعد تحديد وقت الدخول، في المسالك والعادات وأنماط السلوك واتجاهاته..
** فماذا بقي لنا من (رمضان)؟