يستحيل أن يكون الدين الإسلامي دين تخلف وتصادم مع العلم والعقل والمعرفة، فديننا دين علم يدعو للإيمان، ويضيء المسالك، ويهدي إلى أقوم السبل وأوضح المعالم، وهو قادر على استيعاب تطورات العلم، ومستجدات الحياة.
وإعادة صياغتها وفق ثوابت الدين ومقاصد الشريعة.
ولأنه قد تكرر منذ سنين عديدة وقوع جملة من الأخطاء لا تعتمد على الرؤية الصحيحة، حيث لا تزال ثغرة نقص في صحة الشهادة، لذا كان لزاماً أن يكون الشاهد العدل ضابطاً لما يشهد به، مع سلامة تلك الشهادة من القوادح اليقينية، ومن ذلك: أن تكون الشهادة منفكة عما يكذبها حسّاً وعقلاً.
ومن المؤسف أننا ما زلنا نتعسف كثيراً في هذا الباب، من خلال فتح الباب على مصراعيه لقبول شهادة المترائين بالعين المجردة، ونعتمد على شهادة الشهود الذين لم يقفوا مع اللجان الرسمية، والاستفادة والتنسيق مع تلك الهيئات العلمية والمنتشرة في كافة أنحاء المملكة العربية السعودية، كمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، والأقسام الفلكية العلمية في جامعاتنا لتحقيق الرؤية الشرعية للهلال، والحد من الأخطاء التي تقع بشكل أكيد، والقضاء على هذا الوضع الذي يمثل التشرذم والتشتت والفرقة، ويحدث بلبلة في الرأي العام، فضلاً على أنه لا يشكل مظهراً حضارياً في الوقت الذي تيسرت فيه السبل بفضل التقدم العلمي والتكنولوجي.
أذكر على سبيل المثال: أن مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية نقلت أجهزة التلسكوب من الرياض إلى محافظة سدير, في رمضان عام 1429هـ، لرؤية الهلال مع من يستطيعون ذلك بالعين المجردة، لكن أحدهم رفض العمل مع تلك اللجنة، وذهب إلى منطقة بعيدة، ثم أبلغهم أنه شاهد هلال عيد الفطر فيما لم تستطع اللجنة رؤية الهلال بالتلسكوب، رغم أن الرصد بواسطة التلسكوب يتم عبر لجان عدة شكلت من مجلس الشورى منذ عشرة أعوام، ووافق عليها المقام السامي، وليس وفق حسابات فلكية. كما تحفظ أحدهم على إمكان التعاون مع المشروع الإسلامي لرصد الأهلة في رؤية هلال شهر رمضان، أو شوال، بحجة أن المشروع يعتمد على دراسات أثبتت مرات عدة عدم دقتها، ولو كانت بالأجهزة المتطورة.
وكنت قد أشرت في مقال سابق أنه صدر عن معهد بحوث الفلك والجيوفيزياء (قسم الفلك)، في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية عن (وضع الأهلة لعام 1430 هـ)، أعده ثمانية من علماء الفلك، وقد أجمعوا على أن وقت اقتران هلال شهر رمضان لهذا العام (1430 هـ)، سيكون بمشيئة الله تعالى يوم الخميس الموافق: 29-8-1430 هـ، (حسب تقويم أم القرى)، الواحدة ظهراً وثلاث دقائق حسب التوقيت المحلي للملكة العربية السعودية، وأن الحسابات الفلكية الصحيحة الصادرة عن جميع المراكز العلمية الفلكية العالمية لدخول هلال شهر رمضان المبارك لهذا العام تؤكد غروب القمر قبل غروب الشمس في مساء يوم الخميس: 29-8-1430هـ، في جميع مناطق المملكة، وعليه تستحيل رؤية الهلال في مساء ذلك اليوم بأي وسيلة كانت، ويكون يوم الجمعة هو المتمم لشهر شعبان ثلاثين يوماً.
وأكد الدكتور/ حسن باصرة -رئيس قسم الفلك والفضاء بجامعة الملك عبدالعزيز-، و الدكتور/ علي الشكري -رئيس قسم الفيزياء بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن- أن القمر سيشرق في يوم الخميس (29 شعبان) قبل الشمس في مكة المكرمة بحوالي (13 دقيقة قبل الاقتران)، ويكون ارتفاعه عن الأفق الشرقي لحظة شروق الشمس حوالي (2.5 درجة)، ونتيجة لحركته التقهقرية فإن اقترانه المركزي بالشمس سيكون بعد الظهر، ومع استمرار تقهقره فإنه لابد أن يتخلف عن الشمس عند غروبها، لكن بسبب ميل المسارات، وبسبب أن مسار القمر جنوبي بالنسبة للشمس، فإن القمر سيغرب قبل الشمس بحوالي دقيقتين، وبالتالي سيكون من الاستحالة رؤية الهلال بعد مغيب الشمس لعدم وجوده فوق الأفق، لذا لن يكون يوم الجمعة فلكياً غرة شهر رمضان بل تكملة شعبان. وهو ما أكده -أيضاً- الدكتور/ مسلم شلتوت -رئيس الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك في مصر وأستاذ بحوث الشمس والفضاء- بأنه لا يمكن رؤية الهلال يوم الخميس (29 شعبان) في مصر والعديد من الدول العربية والإسلامية، من بينها المملكة العربية السعودية ودول الخليج.
وبالأمس القريب، أكد الشيخ/ عبدالله بن سليمان المنيع -عضو هيئة كبار العلماء -، على ضرورة الاستفادة من علم الفلك في الصوم والحج، لافتاً إلى أنه علم كوني معتمد على نظريات كونية، وحسابات دقيقة، واستكشافات أعطت اليقين في نتائجها، وجرى استخدامها في الصعود إلى الفضاء، وفي معرفة تحديد مسارات الكواكب. وقال: إذا قال علماء الفلك إن الهلال غرب قبل الشمس، وجاء من يشهد برؤيته بعد غروب الشمس، فيجب رد هذه الشهادة مهما كانت، ومهما كان طريق هذه الرؤية، ومهما تعددت، ومهما ظهرت عدالة مدعيها، لأنها شهادة مرتبطة بما يكذبها، إذ كيف يرى الهلال بعد غروب الشمس والحال أنه غرب قبل غروبها.
وبما أن الدراسات الفلكية أجمعت على أن وقت اقتران هلال شهر رمضان (1430هـ)، سيكون بمشيئة الله يوم الخميس الموافق: 29-8-1430هـ، (حسب تقويم أم القرى)، الواحدة ظهراً وثلاث دقائق حسب التوقيت المحلي للمملكة العربية السعودية، فقد جاء ضمن توصيات مؤتمر الأهلة الذي عقد في المملكة العربية السعودية في مدينة جدة، عام (1419هـ)، برعاية منظمة المؤتمر الإسلامي، وحضره عدد كبير من العلماء والمسلمين في الشريعة وعلم الفلك، وعلى رأسهم سماحة الشيخ/ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-، حيث كان من ضمن التوصيات: عدم قبول الشهادة برؤية الهلال إذا قرر علماء الفلك أن الهلال يغيب قبل شمس تلك الليلة، حيث إن الشهادة المقبولة لا بد أن تنفك عما يكذبها حسّاً وعقلاً وشرعاً، وأنه متى قرروا أن الشمس ستغيب قبل القمر فعندئذٍ تقبل الشهادة بشروطها، حيث إن الحساب في ذلك دقيق لا يحتمل الخطأ أبداً. فيعتمد الحساب في النفي لا في الإثبات، ولا يمكن أن يتعارض الحساب مع الرؤية الصحيحة، فالله -عزّ وجلّ- يقول: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}.
حدثني الأستاذ/ عبدالعزيز الشمري -عضو الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك -، أن هناك جملة من الحقائق العلمية التي لا يمكن تجاوزها، ومن ذلك: أن رؤية الهلال قبل مغيب الشمس بالعين المجردة، أو من خلال التلسكوب في آخر ليلة من الشهر الهجري القمري (عندما يكون القمر في المحاق) مستحيلة، وأي شخص يدعي ذلك فإن رؤيته تلك غير صحيحة. وعندما يكون الهلال (القمر) فوق الأفق بعد غروب الشمس ويكون ارتفاعه أقل من درجة، فإن رؤيته مستحيلة بأي وسيلة كانت سواء بالعين المجردة، أو من خلال المنظار المقرب (التلسكوب)، أو الدربيل. وأن الحسابات الفلكية لغروب الشمس وغروب القمر صحيحة ودقيقة جداً، وعليه إذا كانت تلك الحسابات تؤكد غروب القمر قبل غروب الشمس في موقع التحري، فإنه من المستحيل رؤية الهلال فوق الأفق بأي وسيلة كانت، وعليه يجب أن ترد شهادة الشهود في حالة ادعائهم رؤية الهلال في مساء ذلك اليوم بعد غروب الشمس في موقع التحري.
لذا، فإن الاستئناس بعلم الفلك في معرفة موقع الهلال وشكله ومقدار مكثه في ضوء ما توفره التكنولوجيا الحديثة من معلومات وافرة ودقيقة مطلب مهم، وكل من أراد أن يتراءى الهلال لا بد أن يكون بصحبة اللجنة الدائمة المختصة الرسمية، حسبما نصت عليه لائحة تحري رؤية هلال أوائل الشهور القمرية، وتم اعتمادها من مجلس الوزراء. ولن نعذر عند الله وعند خلقه باعتماد منهج ظني غير منضبط قدم على اليقين، فبناء الأحكام على الظن رخصة يؤخذ بها حين يتعذر على اليقين، إذ لا يجوز أبداً الاعتماد في أمورنا الشرعية على الأسباب الظنية في النتائج، والحال أن لدينا وسائل نتائجها قطعية.
drsasq@gmail.com