كثيراً ما أقف متأملاً في قصة الرجلين اللذين جاءا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما: يا رسول الله إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها، فأنا هذا فاقض في ما شئت، فقال عمر - رضي الله عنه-: لقد سترك الله لو سترت نفسك، قال: فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، فقام الرجل فانطلق فأتبعه النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فدعاه، وتلا عليه هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}، فقال رجل من القوم: يا نبي الله هذا له خاصة؟ قال: بل للناس كافة، وفي القصة الأخرى، قال الآخر: يا رسول إني أصبت حدا فأقمه على، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي هذين الحديثين وغيرهما كثير من الرسائل في حق من وقع في معصية أن التوبة تكفيه، وألا يطالب الإنسان الذي ارتكب معصية بإقامة الحد عليه، فالاستتار بستر الله هو أدب إسلامي ومنهج نبوي في ألا يفضح العاصي نفسه بل يكتم معصيته، ويستر على نفسه، ولا يحدث بها أحدا، من أجل حفظ مجتمع المسلمين، وصيانة دينهم وعفافهم، فالله حيي ستير يحب الحياء والستر، وإن من فوائد الستر: عدم إشاعة الفاحشة في الذين أمنوا ولئلا يعم ذكرها في المجتمع.
يجب أن نعترف أن جميع الناس معرضون للوقوع في الخطأ، فليس أحدا معصوما من ذلك، لما ورد في الخبر (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) وليست المشكلة هنا، بل المشكلة في فئة من الناس لم تكتف بفعل المعصية، بل عمدوا إلى الجهر بها والافتخار بارتكابها.
وقد أخرج البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه- بلفظ: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول يا فلان عملنا البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)، وفي لفظ مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه-: (كل أمتي معافاة إلا المجاهرين، وإن من الإجهار أن يعمل العبد من الليل عملاً ثم يصبح قد ستره ربه، فيقول: يا فلان قد عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، فيبيت يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه).
قال النووي - رحمه الله -: (يكره لمن ابتلي بمعصية أن يخبر غيره بها، - يعني - ولو شخصا واحدا، بل يقلع عنها ويندم ويعزم ألا يعود، فإن أخبر بها شيخه الذي يعلمه، أو الذي يفتيه، أو نحوه من صديق عاقل صاحب دين - مثلا - يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجا منها، أو ما يسلم به من الوقوع في مثلها، أو يعرفه السبب الذي أوقعه بها فهو حسن، وإنما يحرم الإجهار حيث لا مصلحة، لأن المفسدة حينئذ ستكون واقعة، فالكشف المذموم هو الذي يقع على وجه المجاهرة والاستهزاء، لا على وجه المساءلة والاستفتاء، بدليل خبر من واقع امرأته في رمضان فجاء، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لكي يعلمه المخرج، ولم ينكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في إنكاره).
وهذا الذي يفعله بعض الناس من المجاهرة بالمعصية يكون له سببان، كما قاله - الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله-، السبب الأول: أن يكون الإنسان غافلا سليما لا يهتم بشيء، فتجده يعمل السيئة ثم يتحدث بها عن طهارة قلب، السبب الثاني: أن يتحدث بالمعاصي تبجحا واستهتارا بعظمة الخالق - والعياذ بالله-، فيصبحون يتحدثون بالمعاصي متبجحين بها، كأنما نالوا غنيمة، فهؤلاء - والعياذ بالله - شر الأقسام.
ويوجد من الناس من يفعل هذا مع أصحابه - يعني - أنه يتحدث به مع أصحابه، فيحدثهم بأمر خفي لا ينبغي أن يذكر لأحد، لكنه لا يهتم بهذا الأمر، فهذا ليس من المعافين، لأنه من المجاهرين، والحاصل: أنه ينبغي للإنسان أن يتستر بستر الله - عز وجل -، وأن يحمد الله على العافية، وأن يتوب فيما بينه وبين ربه من المعاصي التي قام بها، وإذا تاب إلى الله وأناب إليه ستره الله في الدنيا والآخرة.
إن المجاهرة بالمعصية والمفاخرة بها أمران مترادفان، تستلزم الواحدة منها الأخرى بوجه، أو بآخر، فالمفاخرة بالمعصية تستلزم الإخبار بها، والمجاهرة بالمعصية تستلزم المفاخرة بها، كما أن عادة التفاخر بالمعصية والمجاهرة بها يجعل الناس ينصتون لها، ويتشوقون إلى فعلها، فهو يدعوهم بهذا التفاخر والمجاهرة بها إلى استحلالها، وهو دليل على عدم الخوف من الله، وقلة حيائه، وقسوة قلبه، وطغيان الغفلة على نفسه، ومن موجبات غضب الله وسخطه وعذابه في الدنيا والآخرة.
drsasq@gmail.com