كان المشهد إبان إعلان إحدى القنوات العربية الخاصة ببرامج الأطفال.. عن تقديم عروضها في أحد أسواق (مدينتي) -وبالمناسبة فقد تمكنت برامج هذه القناة من وجدان وذائقة وذاكرة أطفالنا خلال سنتين فقط أو أقل.. من بدء بثها.. وهو مالم تحققه كل برامج ومناهج التلقين والتعليم والتوجيه لدينا.. خلال أضعاف هذا العدد من السنوات- فبدأ الناس بتداول خبر البشارة ما بين مصدق ومكذب.. وقبل الموعد المعلوم.. بدأ الاستعداد بشراء التذاكر.. والتواصي على الحضور وانتظار ساعة (يُمنِّي) بها الآباء والأمهات أبناءهم بأمتع لحظات الترفيه.. وكأنهم (ويا للعجب).. لم يذوقوا طعم الترفيه والفرح في حياتهم!.
** وقبيل مغيب شمس اليوم الموعود.. بدأ الناس يتوافدون رجالاً وركباناً صغاراً وكباراً.. وامتلأت الطرقات المجاورة لمكان العرض بالسيارات.. وغصَّ السوق بالأطفال وأسرهم.. وتدافعوا نحو الكراسي.. وكأنك في ساعة الحشر.. الأكتاف توالي الأكتاف.. و(أطفالنا أكبادنا) يلوذون بأبصارهم تجاه منصة العرض.. ومن لم يجد مكاناً يدفع (خلو رجل) لمن وجد مكاناً.. والسوق وممراته وساحاته.. فسيفساء لجيش من الأطفال.. انتظار وترقب للحظات ترفيه.. قد لا يجود الزمان بمثلها.. تمتمات وأحاديث.. ضحكات وأصوات.. مشهد للحياة لا يسعك إلا تأمله.
** أناشيد وأغان بإيقاعات وترية خفيفة.. تحث على الفضيلة والخير والتراحم والبر والتعاطف والتأمل والجمال.. وقيم رفيعة أخرى.. تتناهى إلى الأطفال.. عبر الإيقاع المتوالي السريع.. والتنغيمات السهلة.. والصياغة النصية المباشرة التي يعونها.. والتعبير الحركي واللحن المألوف.. وكان الله رحيماً بهؤلاء الأطفال.. فلم يمكِّن بعض الغيورين.. من إيقاف العرض.. لأنه يحتوي على الموسيقى.. فاستمر.. واستمروا - الأطفال طبعاً- يغنون ويضحكون.. وانقلب الغيورون.. بغنيمة الاجتهاد والمحاولة.. أثابهم الله على قدر نواياهم.. ونفع بهم الأمة.
** (ومن غير الجدير بالذكر) أن الآباء كانوا في جهة.. والأمهات في جهة أخرى.. وبينهما حدود فاصلة.. تشي بمعنى الوئام الأسري والاجتماعي الذي تنتهل من ينابيعه.. في ظل تقاليدنا الأصيلة.. وجد الأطفال كما عبرت وجوههم وحركاتهم وكل جوارحهم ما يمس دواخلهم.. ويرج ركودها وكأن المشهد.. (فوضى خلاقة) من أشد أسئلتها المريرة.
** إلى هذا الحد.. يحتشد ويتعب هؤلاء بطفولتهم..؟ وإلى هذا الحد.. يقدمون من أعصابهم وأعصاب آبائهم.. ما يلبي حاجة ساعة من المرح..؟ إلى هذه الدرجة.. يتشوفون لحظة يكسرون نمط ما ألفوه من ترفيه في أماكن لا يتجاوز عددها.. أصابع اليد في كل مدينة؟.. متشابهة حد الملل ..لا فوارق بينها إلا بالرسوم..! استمر العرض ليلتين.. وانفضَّ السامر بعدها.. مأسوفاً على فراقه كل الأسف.. وتساءلت ملياً: من يفكر بهؤلاء..؟.. ومن يملأ طفولتهم..! لماذا لا تُعد لهم برامج تليق بإنسانيتهم؟ لماذا المسارعة لدينا والحماس لكل شيء.. إلا ما يلبي الاحتياجات النفسية والعاطفية والجسدية لهؤلاء؟.
** كيف يشبون.. ويحترمون ذواتهم وأسرهم كباراً.. وقد ضيعنا حقهم بالمتعة والفرح والاكتشاف صغاراً..! واختزلنا دهشة طفولتهم.. بالمحاذير وصرامة كل شيء.. ومتوالية الأوامر والنواهي التي لا تنتهي..! كيف نقنعهم برد الجميل.. ولا جميل غير الإكراهات واهتبال فرص مستوردة للفرح.