مملكة غرناطة أو مملكة بني الأحمر أو مملكة بني نصر، مملكة نشأت في غرناطة بعد سقوط مدن الأندلس الأخرى وحصونها وقلاعها على يد مملكة فشتالة ومملكة أراجون، وشاء الله سبحانه وتعالى أن تستمر هذه المملكة المسلمة نحو قرنين ونصف بعد السقوط الكبير للأندلس، وقد يعزى صمود مملكة غرناطة هذه المدة الطويلة لعوامل كثيرة منها قربها من المغرب مما يساعد في سرعة الإنجاد عند الضرورة، وكذلك قيامها زمن شيخوخة دولة الموحدين وقيام دولة المرينيين، وهذا يعني التعامل مع دولة فتية متحمسة في بادئ أمرها وعنفوان شبابها، إضافة إلى الشقاق والحروب التي كانت قائمة بين ملوك الفشتاليين وملوك الأراجون في تلك الحقبة من الزمن مما حدا بهم إلى الانشغال بأنفسهم عن تحقيق مآربهم في حقب من العمر المديد رغم المناوشات والحروب التي تظهر ثم تخبو بين الفينة والأخرى، وأيضاً توافد العديد من الأندلسيين إليها بعد فرارهم من مدنهم وقراهم إثر السقوط.
|
لقد أسس هذه المملكة قائد عسكري مميز اسمه محمد بن يوسف بن نصر، ينتمي بنسبه إلى سعد بن عبادة الخزرجي، وقد اشتغل هذا القائد بعد وفاة خصمه ابن هود وذلك عام 635هـ، والذي كان الوالي من قبله عتبة بن يحيى المضيلي يأمر بسب ابن الأحمر على المنابر، فثار أهل غرناطة عليه بتدبير من ابن الأحمر، واستدعوه فسارع إلى غرناطة ودخلها وقت صلاة المغرب بثياب رثة، وتأخر الإمام عن الدخول إلى المسجد فسارع المأمون بتقديم ابن الأحمر فصلى بهم على هيئته تلك بفاتحة القرآن ثم قرأ {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}وبعدها {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}وهو متقلد سيفه، ثم خرج إلى القصر والشموع بين يديه، وتوالت الأحداث، وأخذ في توسيع نفوذه، غير أن هذا التوسع لم يرق لجيرانه من الفشتاليين، الذين كان ابن الأحمر يهادنهم، فكان لابد من المواجهة التي أدت إلى حصار غرناطة، فلم يجد ابن الأحمر خياراً غير الموافقة على الانضواء تحت لوائهم وانقاد لهم بالطاعة وأصبح يؤدي جزية سنوية، كما أنه ساعدهم بخمسمائة فارس عند محاصرتهم لمدينة أشبيلية فكان موقفاً مشيناً سجله التاريخ عليه.
|
توالت الأحداث في هذه المملكة المسلمة الباقية على التراب الإيبيري، وكانت معظمها أحداثاً مؤلمة وحزينة تخللتها الحروب مع العدو، والحروب الداخلية والنزاعات على السلطة والحكم، وصراع الوزراء والقادة على المال والنفوذ، فأخذ المجتمع إلى حد ما ينحو نحو الزهد مع بقاء الترف واللهو عند جميع طبقات المجتمع، لكن بدرجة أقل مما كانت عليه، وصار للزهد والتصوف سوق رابحة أصبحت ظاهرة للعيان، بعد أن يئس الناس من متعة النصر ونشوة الفوز، وأخذ الناس ينظرون إلى الحياة من منظور الزاهد. قال تعالى {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وسارع العلماء والأدباء والشعراء في حث الناس على التمسك بالأخلاق، ومراعاة الدين، وتطهير النفس من الأدران، والجوارح من ارتكاب المعاصي، مؤكدين أن الذي لا يستطيع كبح جماح نفسه أمام الشهوات لا يمكنه أن يحملها على الانتصار في ساحة الوغى، وظلوا يحثون الناس على ذلك، ولا شك أن هذه النخبة من المثقفين قد وجدت أذناً صاغية لدى الكثير من أفراد المجتمع بسبب الإحباط الذي أصابهم من توالي الهزائم أمام العدو والنزاعات الداخلية، والمنافسات على المال والنفوذ، فأضحى لهذا الملك من الفكر سوقه الرابحة.
|
والحقيقة أن أدباء الزهد وشعراءه والداعين له في تلك البقعة من العالم الإسلامي وفي ذلك الزمن الحرج والحاسم في تاريخ الأمة الإسلامية لم يكونوا زهاداً منعزلين عن بقية المجتمع بل كانوا زهاداً مختلطين بالمجتمع يشاركونه أفراحه وأتراحه، ويمارسون أعمالهم اليومية سائرين على النمط الاجتماعي السائد، ومتوافقين مع النظام السياسي القائم مسايرين له غير معارضين. ولا بد لنا بهذا الخصوص أن نذكر أن قوة الإيمان والارتباط بالعقيدة متجذرة في نفوس الأندلسيين حتى وإن كانت ممارسات بعضهم اليومية خلاف ما تأمرهم به عقيدتهم، لذا فإن هذه العقيدة هي الملاذ كلما حلّ خطب، أو وقعت جائحة.
|
ونجد أن الشاعر والفقيه ابن خاتمه المتوفى عام 770هـ والذي كان كاتباً وفقيهاً لبلاط بني الأحمر يقول:
|
إذا ما الدهر نابك منه خطب |
وشد عليك من حنق عقاله |
فكُلْ لله أمرك لا تفكر |
ففكرك فيه خبط حباله |
وهذا الشاعر والمؤرخ والأديب والسياسي المعروف ابن الخطيب يقول شعراً في الزهد وهو في سلوكه السياسي والشخصي رجل آخر، يختلف عن الزهاد، لكن الأحداث جعلته يلجأ إلى الملاذ العظيم عند المسلمين وهو دغدغة الشاعر الإيمانية الرائعة التي تحويها الأفئدة عند كل المسلمين إلا ما ندر، فهي سريعة الوثوب عند الخطوب. فقال:
|
وما العمر إلا زينة مستعارة |
ترد، ولكن الثناء هو العمر |
ومن باع ما يفنى بباق مخلد |
فقد أنجح المسعى وقد ربح التجر |
|
ونركن إلى الدنيا اغترارا بلهوها |
وحسبك من يرجو الوفاء من الغدر |
|