في شهر يونيو 2009م أصدرت دار الهلال عدداً خاصاً من مجلتها الشهرية (الهلال) التي صدرعددها الأول في أوائل عام 1892 ميلادية، كان ذلك العدد خاصاً بالحديث عن مدينة القاهرة التي كانت ساحرة بما تحتويه من عبق التاريخ وجمال الطبيعة ورضا النفوس والتعايش المبني على المحبة، وقد احتوى ذلك العدد على عدد من الدراسات عن تلك المدينة التي احتضنت النيل عنوان النماء والرخاء الذي يشرب منه مائة مرة لا بد أن يعود إليه كما يقول إخواننا المصريون، وكان من بين تلك الدراسات: القاهرة جوهرة الشرق، ماذا حدث للقاهرة، مقاهي الفكر والظرف والأدب قاهرة المعز.. قاهرة الشهداء، سكان القاهرة في عيون كرومر، القاهرة في كتابات الرحالة الأوروبيين إلى جانب عدد من الدراسات والقصائد التي تغنت بجمال القاهرة وروعتها.
|
وجاءت الكلمة الأخيرة في ذلك العدد تحت عنوان ذات مساء في قاهرة الأربعينيات بقلم الدكتور الطاهر أحمد مكي جاء فيها:
|
(الصخب الوحيد في تلك اللحظة من الليل يأتي من جانب عمال النظافة: حملة نضم عربة نقل ضخمة تجر وراءها صهريجا أضخم تتدلى منه خراطيم كبيرة تندفع منها المياه في غزارة وتغطي وجه الشارع والعمال في أيديهم الفرش السميكة يغسلون بها الإسفلت مرة ومرة يدفعون المياه إلى جانبي الشارع فتبتلعها الميازيب على جانبيه لحظات بعدها يبدو الإسفلت مستوياً يبرق لامعاً بلا حفر ولا مطبات، في هذا الجو يتحرك الهواء نديا رطباً نظيفاً لذيذاً مغذياً منعشاً ويحلو تأمل المدينة الغاشية وهي تتأهب ليوم جديد)
|
والواقع أنني عشت تلك الأمسية عندما رغبت أن أزور القاهرة في عام 1954م وحيث إنها رحلتي الأولى إلى خارج المملكة فقد كنت في حاجة إلى زميل يؤازرني ويؤنسني وصدفة زارنا في منزلنا بالمبرز الأستاذ عبد الرحيم مصطفى وهو مدرس متعاقد يعمل في مدرسة المبرز الابتدائية فلما حدثته عن رغبتي أخبرني أنه مسافر إلى مصر بعد أسبوع وأنه يرحب برفقتي مما أثلج صدري فأخذت أعد العدة للسفر إلا أنه صادف أن يكون حجزه قبلي بأسبوع فأعطاني عنوانه وقال لي: إذا حللت بالقاهرة فأنزل بعمارة (الجندول) بشارع فؤاد فهي عمارة معروفة لدى العرب وأعطاني عنوانه.
|
عملت بتوجيهاته وما إن نزلت في المطار حتى قابلني سائق سيارة الأجرة وأخذ الحقيبة وأودعها في الصندوق الخلفي سألني قبل الجلوس على مقعد السيارة عن وجهتي فقلت شارع فؤاد عمارة الجندول قال: عمارة مشهورة معروفة ثم أخذ يحدثني عن مصر والقاهرة وترحيب الشعب المصري بالقادمين إليهم والتفاني في خدمتهم بأنفس راضية وأخلاق عالية، أقمت ذلك اليوم في غرفة بالعمارة وكانت أجرتها جنيهان، نمت كثيراً ما سبب لي الأرق في الليل مما جعلني أنزل إلى الشارع حوالي الساعة الثالثة صباحاً فإذا الإسفلت يلمع نظافة وإذارائحة الصابون تنبعث من الأرصفة المغطاة بالبلاط القيشاني الأبيض في جو منعش لذيذ يجلب الطمأنينة.
|
|
كان عدد سكان القاهرة آنذاك ثلاثة آلاف نسمة حسبما ورد في المجلة وكانت وسائل النقل والمواصلات القطارات والمترو والحافلات تجول في الشوارع والطرقات وتتحرك في انسيابية ما بين الأحياء دون عوائق وكانت القاهرة فيما بين عامي 1940- 1960م بؤرة من بؤر الحراك الثقافي الذي عبر إشعاعاته إلى جميع إنحاء الوطن العربي حيث تنتشر المنتديات والفعاليات التي تقام على مدرجات دور العلم والمراكز الثقافية ومنها دار الاتحاد النسائي، معهد التربية العالي ودار العلوم ومجمع اللغة العربية إلى جانب مقاهي الظرف والطرب والأدب فقد كانت بعض المقاهي تحتوي على زوايا ثقافية يلتقي فيها الأدباء والشعراء والصحفيون والرسامون والحكواتية إذ تفتح أبوابها وتلتقي زبائنها من الساعة الرابعة عصراً حتى بدء الدوام الرسمي للحكومة صباحاً وكان من أشهر رواد تلك المقاهي د. طه حسين، وعباس العقاد، وعلي الجارم، ومحمود السعدني، وصلاح جاهين فكري أباظة، كامل الشناوي، عبد الرحمن الخميسي، استيقان روستي يوسف إدريس، نجيب محفوظ وغيرهم ومن أهم تلك المقاهي،مقهى ريش، مقهى اللواء، مقهى متاتيا، مقهى ركس، مقهى الحرفين حيث كانت تلك المقاهي تحتضن تلك النخب من الأدباء والعلماء والمفكرين.
|
ثم انقلبت الأوضاع وتغيرت الأحوال بعد مرور فترة لم تصل إلى عشر سنوات هذا ما لاحظته عند زيارتي الثانية للقاهرة عام 1960م وكنت قادماً من تونس التي قضيت فيها عشرة أيام برفقة وفد صحفي بدعوة من الرئيس التونسي الحبيب بو رقيبة - رحمه الله- فحللت ضيفاً على الأخوين الكريمين الدكتور محمد بن عبد اللطيف الملحم والدكتور حمود عبد العزيز البدر اللذين كان يتلقيان العلم بجامعة القاهرة ويسكنان في (حي الدقي شارع الخطيب) فوجدت لديهما الترحيب والإيثار والأخوة الصادقة، حيث قضيت في ضيافتهما خمسة عشر يوما، زرت خلالها الكثير من الأحياء والشوارع والمكتبات فلم أجد أثراً لغسيل الإسفلت ولا بلاط الأرصفة بل لم أجد أرصفة أصلا فإن ما وجدته بجوانب المباني وأمام المحلات عبارة عن حفر ومطبات ومجمعات للأتربة ورأيت بعض عمال النظافة يجمعون القمامة ثم يودعونها في أماكن أمينة بعيداً عن أنظار العابرين فسبحان مغير الأحوال إلا أنني كسبت خلال تلك الزيارتين وما أعفيهما من الالتقاء ببعض الفضلاء الذين مازلت أكن لهم الحب والاحترام وفي مقدمتهم المستشار صلاح الدين الطوحي والشاعر الطبيب الدكتور والشيخ حسن عاشور صاحب مجلة (المختار الإسلامي) والشاعر فاروق شوشة والفنان محمد ريحان والأستاذ عبد الرحيم عمر السكرتير ما يقصر الجمهوري.
|
كما التقيت أعضاء البعثة الذين يتلقون في الجامعات والمعاهد المصرية، وهم أول فوج يذهب إلى مصر لمواصلة التعليم وعددهم خمسة ذكر أسماءهم الأخ الدكتور محمد بن عبد اللطيف الملحم في كتابة النفيس (كانت أشبه بالجامعة) فجزاء الله خير الجزاء.
|
|
يدعوني الحنين دوماً لزيارة القاهرة فقد زرتها برفقة العائلة عام 1970م في شهر رمضان وحللنا بشقة في حي المهندسين، فوجدت القاهرة في رمضان تختلف عنها في غيره من الأزمان كما وصفها الشاعر أحمد مخيمر:
|
ما أروع المآذن المنورة |
كأنها في الليل أيدي القاهرة |
ترفعها عبر الظلام ساهرة |
نطلب من رب الوجود المغفرة |
شهر الصيام بالتقى أضاءها |
وجاءها بنفخة معطرة |
من جنة الخلود.. خلف الوجود |
تطوف فيها حكمة السماء |
والشوق للدعاء والقنوت |
إن لرمضان في القاهرة طابعا مختلفا عن باقي المدن فإن من يطوف بحي الحسين وحي السيدة وخان الخليلي والقلعة القديمة قبل ساعة الإفطار يجد الكثير من الأسر وقد افترشت الأرض على الأرصفة وبسطت أمامها أطباق الطعام تدعو المارة لمشاركتها الإفطار في مظهر يوحي بقوة التالف والترابط بين أفراد الشعب المصري وتسابقهم على أعمال البر والبذل في ذلك مهما كانت حالة بعضهم المادية فكل ينفق من حبره ومما هيأ الله له من الرزق.
|
ولرمضان في القاهرة عبق يختلف عنه في غيره من الأشهر حيث ترتفع أصوات المؤذنين من فوق المنابر معلنة عن ميلاد يوم جديد حيث يجب الإمساك عن الأكل والشرب وبدء الصيام إلى الليل عندما يصل المؤذنون نهاية النهار والذي مضى في صيام وتبتل وتقبل وسجود وركوع لتحلق الأسر على مائدة الإفطار وتمد الخوانات لاستضافة الصائمين من الفقراء والمساكين والعزاب الذين ليس لهم من يخدمهم ورواد المساجد راغبي المشاركة في ذلك الاحتفال اليومي البهيج. هذه صورة من صور القاهرة الساحرة التي كتب عنها عادل عبد الصمد في افتتاحية ذلك العدد من المجلة:
|
القاهرة مدينة عربية ذات مكانة بارزة بين مدن العالم.. إنها بالغة القدم في عمر الحضارة الإنسانية وتشغل موقعاً فريداً أدى إلى التبادل والتأثير مع الحضارات الأخرى، كما كانت ولا تزال ملتقى للثقافة العربية والإسلامية؟
|
إن لمدينة القاهرة سحرها وجلالها الذي يشيع في الإنسان إحساساً عميقاً بتواصل مسيرة الإنسان وفخره بهذا التراث العريق الشاهد على حضارات عدة.. إن كل مكان فيها يحمل أثراً لواحد من عصور التاريخ حتى تكاد المدينة الوحيدة في العالم التي توجد بها آثار لأربع حضارات هي: الفرعونية، الرومانية، القبطية، الإسلامية، حيث تحتويها جميعاً في بوتقة واحدة فريدة في تعددها ووحدتها.
|
كتب أحد الأجانب الذين وقعوا في سحرها من لم ير القاهرة لم ير الدنيا.. فأرضها تبر ونيلها بحر ونساؤها جواري الجنة في بريق عيونهن، ودورها قصور، ونسيمها عليل كعطر الندى ينعش القلب وكيف لا تكون القاهرة كذلك وهي (أم الدنيا).
|
وللشاعر صالح جودت مقطوعة تغني فيها بحب مدينته الخالدة قال فيها:
|
يا جنتي، يا كوثري يا هبة النيل الثرى |
يا بهجة نائمة على بساط أخضر |
يا شعلة دائمة على طريق الأعصر |
حبيبتي، قاهرتي لن تغلبى، لن تقهري |
أفديك، يا حبيبتي من شر كل معتد |
وخير ما أشدو به أني أحب بلدي |
هذه هي آراؤهم في القاهرة ورأيي لا يختلف عن آرائهم بمدى إعجابي وحبي للقاهرة ما أقمت بها بها فترة وتمنيت الخروج ولا خرجت إلا وتمنيت العودة إليها.
|
|