في . رحلاتي العلمية قابلت امرأة نصرانية، وقد كانت مثالاً للأدب والتعامل الحسن، وكنت أراقب تصرفاتها، فأجدها تستمر بالأيام لا تطعم طعاماً، فاستغربت من تصرفها، فسألتها عن سبب قلة طعامها، فقالت: إني صائمة.
فقلت لها: ولماذا تصومين؟
قالت: هذا ما أمرنا به المسيح -عليه السلام- في أوامره ووصاياه، فحسبتُ عدد الأيام التي تصومها، فوجدتها قد تقارب في السنة ثلاثة أشهر، ولا تفطر يومياً إلا في الليل، على أكلات معدودة.
فأدركت -حقيقة- النظام الفريد والدقيق الذي جاء به القرآن الكريم في عبادة الصيام. فمنهج الإسلام منهج فريد في تربيته للنفس البشرية، ودعوته إلى تهذيبها والارتقاء بها إلى درجات الكمال الإنساني.
فالصيام عبادة مفروضة من رب العالمين، تجلت فيه التربية الجسدية والروحية أجلى بيان. وكان دعوة القرآن الكريم للصيام دعوة لتربية إرادة الروح قبل إعداد الجسد، وقبل الإمساك عن الطعام الإمساك عن الرذائل والسفاسف والارتقاء إلى المعالي والفضائل في كل شيء.
فقد فرض الصيام في السنة الثانية من الهجرة المشرفة، وذلك عندما نزل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (183 سورة البقرة).
ففي نزول هذه الآية في بداية تأسيس المجتمع الإسلامي المدني لدلالة أكيدة على أهمية الصيام في تربية النفوس، وإعدادها لما تتطلبه الأحداث منها. ففي فرضية الصيام إشارة إلى تهيئة الأمة للأمر الرباني بالخلافة في الأرض. فالأمر بالصيام لهذه الأمة قد سبقتها إليها الأمم الغابرة. فالصيام حبس النفس عن الشهوات لوقت محدود. ويأتي الأمر القرآني مؤكداً، أن الصيام الذي فرض على المسلمين، كان مفروضاً على الأمم السابقة والشرائع الماضية، فليس هذا الفرض مشكلاً، بل هو قد تكرر في الشرائع الماضية، وإن اختلفت نسبته وأيامه وأوقاته وأحوال أهله كما رأيت من تلك السيدة النصرانية. ولكن تبقى حقيقة الصيام المهمة في صياغة الأجيال، وتربية النفوس المؤمنة ترية قوية. فبقدر ما تقوى الإرادة يضعف سلطان العادة. فالصيام مجال خصب لتقوية الإرادة على فعل الخيرات، وهجر المضرات. فإذا أدى المسلم الصوم كما ينبغي، وإذا أدرك الحكم وفقه الغايات، يصبح الصوم له سُلماً إلى الترقي الروحي، والعلو النفسي بتربية الإرادة، وتقوية العزيمة، فينطلق المسلم من إسار الحاجات الجسدية إلى آفاق الحرية السامية، فيغدو السيد والمتصرف في شهوته لا أسيراً لها.
وبالتالي تسكن النفس، ويصفو القلب، وتسل سخيمته، وتسلم سريرته، وتتطهر الجوارح من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة المخالفة، وتضيق مجاري الشياطين، فتنكسر سورة الشهوة والغضب.
وفريضة الصيام من أعظم العبادات التي يحقق فيها العبد خلوص التوحيد، ومراقبة الله -عز وجل، فهو في صيامه لا يبتغي إلا وجه الله، ولا يراقب إلا الله. وخير دليل على ذلك الحديث القدسي المشهور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) أخرجه البخاري ومسلم.
فالصوم ينمي في النفوس رعاية الأمانة والإخلاص في العمل، وأن لا يراعي في عمله غير وجه الله. وهذه فضيلة عظمى تقضي على رذائل المداهنة والرياء والنفاق. فبالصيام يتعمق في قلبك اليقين، ويتجلى في نفسك الإيمان، وبالإضافة إلى ذلك تستشعر معية الله ومراقبته لعملك، فتستحث النفس على العمل، والتزود من الصالحات، فيزداد رصيدك من الحسنات.
لذا كان في آيات الصيام في القرآن الكريم، دعوة لوعي درس التقوى الروحي، كما جاء في نهاية الآية الحكمة من فرضية الصيام، قال تعالى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). فالتقوى هي الرسالة الكبرى من الصوم، وبتحقيق التقوى في الصيام يتحقق الأثر التعبدي من الصيام. فالتقوى توقظ القلوب، وتحرك الأفئدة، وتحرس المشاعر وتقودها إلى طاعة الله وابتغاء مرضاته، وتستجيش همة المؤمنين في إيثار أمر الله على مطالب نفسه ولذاته، فتعلو النفس بإيثار رضى الله تعالى على إيثار رضى النفس. قال ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد (1-320): (وللصوم تأثير عظيم في حفظ القلب والجوارح وصحتهما، ويعيد إليهما ما استلبته منهما أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى).
فحري بالصائم أن يعمل بما ورد في هذه الآيات من الركائز الإيمانية والأخلاق الفاضلة ليحقق التقوى المرادة من صومه.
drhuda87@hotmail.com