هذا شيء مفروغ منه أن يكون كبار العلماء لهم معرفة بمذاهب الفقهاء وفتاويهم وأنهم ينتسبون إلى المذاهب الأربعة حقيقة لا اسماً ولا يطلق لفظ كبار العلماء إلا على قوم أفنوا أعمارهم في العلم والفقه والتأصيل ومعرفة أحكام التشريع وخلاف العلماء واختلافهم، أفنوا أعمارهم في التعلم والتعليم فهم كبار في السن وكبار في العلم والفقه والفهم أصحاب العلم الخمير لا العلم الفطير وكونهم تختلف الآراء فيما بينهم ففي هذا دلالة على استقلاليتهم وأنه لا يقلد بعضهم بعضاً ولا يتبع بعضهم بعضاً فلا يعد المقلد في هذا المجال من كبار العلماء إنما يتفقون أو يختلفون عن قناعة شخصية جاءت بعد استفراغ الوسع والجهد وبهذا تبرأ ذممهم.
والناس في الغالب وأنصاف العلماء حريصون على اتفاق كلمتهم وأنهم متى ما اختلفوا فإنها دلالة على عدم النضج أقول: لا ثم لا بل اختلافهم ظاهرة صحية وكما قال الإمام أحمد رضي الله عنه: إن في اختلافهم سعة للأمة وما ضاق عند إمام اتسع عند آخر عن اجتهاد لا عن تساهل أو تلاعب حاشاهم ثم حاشاهم.
وأذكر حين كنت أعمل باحثاً في الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء كانت قاعة الاجتماعات في حي البديعة مصنوعة من الخشب الذي يطلق عليه (مرتبل) وكان المشايخ الكبار آنذاك سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز وسماحة الشيخ عبدالله بن حميد وسماحة الشيخ صالح بن غصون رحمهم الله وسماحة الشيخ عبدالله بن عقيل وبقية الأعضاء وإذا بنا ونحن خارج القاعة نسمع صوت صالح بن غصون وهو الفصيح والخطيب المصقع وإذا به يقول: (إذا كنا ملزمين بقول الشيخ فلان إذا لماذا نجتمع اجتمعنا لأن يبدي كل منا رأيه والشيخ فلان له منا التقدير والاحترام لكن لسنا نقلده) وبعد الانتهاء علمنا أن أحد المشايخ عفى الله عنه هتف في آذان عدد من المشايخ قائلاً لهم وحدوا كلمتكم فإن سماحة الشيخ فلان يرى فلا تخالفوه. فأنا أعجبني منطق الشيخ صالح بن غصون رحمه الله نعم إذا كنا سنأخذ بقول سماحة الشيخ فلان إذاً لماذا نجتمع ولماذا نؤمر بالاجتماع ولماذا كنا كبار العلماء إذاً وجود اجتماعات عبث. وهذا من فقه الشيخ صالح بن غصون فقد كان فقيه النفس والدرس لأنهم إذا اجتمعوا على قول واحد فهذا محال لأنهم لم يبحثوا قضايا منصوص عليها إنما ناقشوا قضايا اختلف فيها السلف ولا تزال بحاجة إلى بحث واجتهاد أو أنها عصرية تأخذ حكم النازلة والاجتهاد فيما لا نص فيه ولا إجماع وإذا اختلف كبار العلماء فما على الحاكم أو السلطان أو الملك إلا أن يأخذ بما هو أرفق لشعبه ووطنه لأنهم انتهت مهمتهم بالإخبار وأما السلطان فعليه أن يرى مجتمعه وماذا يناسبه وأيسر له وفيه الرفق فيأخذ به ويطبقه ولا أحد يعيب عليه بل هذا هو عين الصواب وليس هناك مسلك غير هذا لماذا؟ لأن القولين لا يسميان اختيارا فهنا الشيء وضده. ومن هذا الباب بين أيدي الناس كتاب اسمه اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ولكن كثيراً من المسائل فيها قولان إذا كيف نقول: هذا اختيار ابن تيمية فهل يعقل أن يختار قولين.
إذاً الذي يبغي الوقوف على اختيار شيخ الإسلام فعليه أن يراجعها في كتاب تلميذه الإمام ابن مفلح (الفروع) فإنه ما من مسألة تمر إلا ويحكي القول الذي مات شيخه وهو يقول به هذا والله من وراء القصد.
* الأحساء
www.alismaeil.com