من المؤشرات التي تنم عن انتكاس خطير في بنية الوعي قضية الاستهتار بالدماء واستسهال إزهاق الأرواح البريئة على نحو لا ينسجم مع قدسية الحياة, بل ولا تعضده أي مفردة من مفردات البنية العميقة للثقافة الإسلامية. حرمة الدماء ثقافة نأت معالمها عن عقلية البعض من الشرائح الاجتماعية التي ساد في أوساطها فكرة استرخاص الدماء
إما بممارسة القتل أو -وهو الأغلب- إبداء قدر من التعاطف الواسع مع القاتل.. حرمة الدماء من أبجديات الفكر التي عملت العقيدة الإسلامية على تجذيرها في الوعي العام، وقد احتفت جملة من النصوص وعلى نحو بالغ بتأصيل تلك الثقافة ولفت الانتباه إلى أن قضية سفك الدماء تأتي في مستهل القضايا المطروحة على ساحة العرصات في يوم القيامة، فأول (ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) والعبد لايزال (في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، وثمة منظومة نصية في منتهى البحبوحة تتقاطع على التأصيل لثقافة الاحتفاء البالغ بحرمة الدم والاشتغال على تجفيف منابع مسوغات إزهاقه، بل إن الأدبيات الفقهية بلغ من درجة تحفظها على جريمة القتل أنها اعتبرت أن الاعتداء على شخص بريء بمثابة دق طبول الحرب على البشرية عن بكرة أبيها ف(مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا).
إن تمدد تلك الثقافة العنفية المسكونة بالعشق الدموي سيكون له ثمن باهظ، حيث سيتكرس جراء ذلك حالات واسعة من التشرذم والنزاع وشق وحدة الصف داخل الأمة وستضمر مساحات الوفاق بين أفراد المجتمع. عندما يتعمق ذلك التوجه التحريضي فسينفتح باب الفتنة الموصد على مصرعيه على نحو يفضي إلى تفجير الأوضاع الأمنية ويبيت العنف هو لغة الخطاب المعتمدة في هذا الواقع. شيوع الفكر التعبوي يؤسس في حقيقته لوجود وضعيات من النفور من الدين، فالعبارة الفظة والقالب القمعي يشوه ما يتسم به هذا الدين من سماحة متناهية وبناءً عليه تدلف الأمة في مناوشات جانبية تنهك طاقاتها وتصرفها عن التفرغ لمواجهة تحدياتها المصيرية. ذلك اللون من الخطاب يرتكب إساءات لا تغتفر لو لم يكن منها إلا منح فرص مكثفة للدوائر الفكرية المتربصة والقوى المبيتة لسوء الطوية التي لن تعدم وجود المسوغات للتعبئة والتحشيد, وهكذا تجد الذات الجمعية نفسها محشورة في معارك ملتهبة لم تؤهل لها. لقد تكبدنا خسائر جمة من وراء ذلك المدّ العنفي. ولو تأملنا واقعنا اليوم لألفينا آثاره تتمثل في أصابع الاتهام التي طالت مناهجنا التعليمية والمدارس الدينية والمؤسسات والمراكز والمساجد حتى الجمعيات الخيرية باتت في دائرة الاستهداف وكثير منها أدرجت في القوائم السوداء. خطاب العنف وفر منظومة من المبررات وولّد سيلاً من الذرائع لمن يروم النيل من سمعة الإسلام وتعريضه لانتكاسة مفجعة.
وصفوة القول: لابد من تنمية حسّ المسؤولية تجاه حرمة الدماء, والعمل على تعميق لون من الثقافة التي تعلي من قيمة الإنسان وترفع مُعدل الاحترام لإنسانيته.
Abdalla_2015@hotmail.com