كانوا يعرفون من هو ومن يكون وكيف يعمل وإلى أين يَحث خطاه. يعرفون أنه عدوهم الأول، والرجل الذي وقفَ لهم و(لجرذهم) الأكبر بالمرصاد، وأن وجوده يعني بالضرورة انتهاءهم، وانتهاؤهم يعني بقاء وطنه الذي نذر نفسه وعقله ووجدانه وكل ما يملك لخدمته؛ فهم وإياه على طرفي نقيض. يعمل بجهد لا يعرف الكلل، وعزم لا يُخالطه الملل؛ يعرف ماذا يريد، وكيف يصلُ إلى ما يريد، ومن أين يبدأ وإلى أين تتجه عيونه وغاياته ومراميه.. هم يدركون كل ذلك، ويعرفون - أيضاً - أن محمد بن نايف ركنٌ من أركان الأمن في البلاد، وعقبة كأداء تقف بقوة وحزم في طريق أهدافهم.. وهو ليس فقط من أحفاد (المؤسس) وإنما وجه مشرق لهؤلاء الأحفاد، رجل يعمل أكثر من ثلاثة أرباع يومه كما يقولون، لا يعرف الترف، والبحث عن المتع، عمله متعته، وفي اليقظة بمعناها الواسع يجد لذته، أمنيته ? كما يقول لسان حاله ? أن يجعل من يومه أكثر من أربع وعشرين ساعة؛ فاليوم أقل من أن يتسع لكل مشاغله وهمومه وطموحاته.. لذلك فنجاته بالنسبة لأي وطني مخلص هي نجاة للمستقبل، ونجاة للحلم السعودي، ومؤشر مهم لنا أن أحفاد الأب المؤسس فيهم من يُطمئننا على مستقبلنا ومستقبل أبنائنا وأحفادنا.
وأنا كنت أقول - وما أزال - أن الإرهاب انتهى ، أو هو على وشك النهاية. ولن يزيدني هذا الحادث الغادر إلا إصراراً على ما كنت أقول. الحادثة بقدر ما هي مدوية، وخطرة، واستهدفت رمزاً من رموز الأمن في البلاد، إلا أنها تشير إلى الوضع (اليائس) الذي وصل إليه الإرهابيون، وشعورهم أن الأمن الذي يديره هذه الرجل الفذ يُضيَّقُ عليهم الخناق، وأن آمالهم وأحلامهم في إقامة الدولة الصحوية، على أنقاض هذه الدولة، بدأت تتلاشى، وتزداد بُعداً مع مرور كل يوم جديد. هذه العملية تدينهم وتفضح مدى شعورهم بالإحباط. صحيح أن وصولهم للأمير محمد كان خطأ من المفروض ألا يحدث، ولكن إذا كان ثمة خطأ أمني تم استغلاله، وتوظيفه لتنفيذ العملية، فإن التجربة والخطأ هي التي بُنيت عليها كل إنجازات العالم الأمنية؛ فالخطأ يقود إلى النجاح، وتتعلم منه كيف تطور آلياتك وتعيد حساباتك، وفي الوقت ذاته كيف تحاصر عدوك، وتضيّق عليه منطقة المناورة. فالتجربة والخطأ هي بكل المقاييس في مصلحتنا وليست في مصلحتهم؛ فوسائلنا أقوى وأكثر وأمضى من وسائلهم، وإن بدت فرقعاتهم الإعلامية عالية الدّوي.
النقطة الثانية التي لا يفوتني أن أتطرق إليها هنا، وقد سبق وأن تحدثنا عنها مراراً وتكراراً، أننا بقدر ما نحاصرهم، ونضيّق عليهم الخناق، سيظل هذا الفكر ينتج انتحاريين. الحل الأمني، والاحترازات الأمنية مهمة، وهي بكل تأكيد (شرط ضرورة) في حربنا مع هذا الفكر، غير أنها ليست (شرط كفاية)؛ مواجهة الفكر، والثقافة، وكل ما يؤدي إلى ترسيخ هذا الفكر ورعايته واحتضانه، وأعني هنا تحديداً (ثقافة التشدد)، هو حتم وليس خيار. ومن يظن أن بالإمكان الالتفاف على هذا الفكر، بمهادنته أو مداهنته، أو شراء بعض أطيافه، فهو مخطئ . والأيام والتجارب مع هؤلاء السفلة أثبتت صحة ما أقول . لا حل إلا بالمواجهة، ولا نجاة لنا ولوطننا، ولمنجزاتنا الحضارية إلا باجتثاث ثقافة التشدد أولاً .
نقطة ثالثة وأخيرة أجد أن النقاش يجب أن يشملها؛ فحواها أننا يجب أن نحدد إلى من ينتمي هؤلاء؛ هل هم - مثلاً - ينتمون إلى التيار (الوطني) الذي يصب عليه بعض طلبة العلم جام غضبهم بمناسبة ومن دون مناسبة، أم هم أولئك الفئة (المسكوت) عنها ضمنياً، وإذا اضطروا للحديث عنها تحدثوا وكأنهم يتحدثون رفعاً للعتب، وبلغة و (نبرة) غاية في النعومة: فهم مخطئون، ضالون، نسأل الله لهم الهداية، وهلم جرا .. لماذا يتهربون من أن ينعتونهم بصفتهم الحقيقية، كما فعل أسلافنا مع الخوارج : كلاب النار؟ سؤال يضع الكثير من الحروف على اللوح، وربما النقاط على الحروف.
إلى اللقاء.