تأصيل منهجية فتوائية مرتكزة على التيسير ومنفتحة على كافة الانتماءات المذهبية مطلب فقهي ملح، وخصوصاً في ظل تصاعد ضرب من المد المتشدد. التيسير ينبثق من كينونة الإسلام؛ فهو - بحكم طبيعته الماهيته - ينطوي على بُعد تسامحي في غاية ....
....الروعة، والكتب الفقهية لمعظم علمائنا الإجلاء تحفل بأنماط متعددة من صور التيسير التي تؤصل للتسامح الفقهي المعبر عن ذلك التكوين التأصيلي المتناهي الجمالية للشريعة السمحة.
إن المتغيرات العصرية وطبيعة المستجدات الزمنية تملي على الفقيه أخذ ذلك في الاعتبار؛ فالفتوى تستقي جزءاً كبيراً من موضوعيتها من خلال مراعاتها لاعتبارات عديدة من أبرزها طبيعة الواقع وماهية تكوينه - بحسب ذلك - ضرورة ملحة، وخصوصاً في القضايا التي لم تُستهدف بتنصيص قطعي مباشر.
التيسير أصل جوهري في نظام التشريع الإسلامي وقاعدة (المشقة تجلب التيسير) التي عبّر عنها (الشافعي) بقوله: (إذا ضاق الأمر اتسع) هي من القواعد الخمس التي تدور عليها كافة أحكام التشريع.
هناك مَن يبالغ في التوسع في قاعدة سد الذرائع على حساب فتح الذرائع، وكلاهما مسألتان جوهريتان لكن لا يسوغ إبِراز أحدهما على حساب الآخر؛ فكلٌ له موطنه ويقدر بقدره.
هناك مَن يروم التهرب من الوقوع في فخ تحليل الحرام؛ فيقع في أسوأ مما هرب منه، وهو تحريم الحلال وتضييق مساحة المباح في الإسلام!
ثمة شريحة تعتقد أن التوجه نحو التيسير ما هو إلا لون من (تتبع الرخص) التي حظرها جمهور العلماء، وقد لا تعي تلك الشريحة أن تتبع الرخص المذموم عند الجمهور هو ذلك الذي يكون مدار اختيارات المرء فيه قائماً على الالتفاف على الفكرة والتحايل الثعلبي المراوغ على مكوناتها على نحو مجاف للقواعد المنهجية في الاستدلال من ذلك الصنف المولع بامتصاص ما يلاقي هوى في ذاته من الفتاوى, من غير تمعن في مدى حظها من الموضوعية.
هذا هو المقصود بتتبع الرخص, أما التوجه صوب تلمس الفتاوى التيسيرية المتكئة على حيثيات غنية بالمنطقية والصادرة عن عالم معتبر وعلى نحو يتناغم مع مقاصد الشارع فهذا ليس من تتبع الرخص في شيء بقدر ما يفصح عن روح سمحة وطبيعة تكوينية عالية المرونة, ويعبر أيضاً عن اجتهاد له مستنداته التبريرية على نحو لا يسوغ عزله علمياً.
إن طبيعة التكوين الذاتي لها أثر في التشديد أو التيسير, وثمة شخصيات مبرمجة على أولوية التشدد على نحو أفرز روحاً صلدة صارمة الملامح حادة القسمات تزخر بمؤججات الحدة، يتجلى هذا حتى في تعامله مع الآخرين؛ أسرته؛ فهو دائماً عبوس مقطب الجبين يأخذهم بنوع من القسوة ويحرمهم من أشياء ترفيهية كثيرة تحت ذريعة التدين!
إن الله - سبحانه وتعالى - يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تنتهك محارمه. و(الفروع شأنها قريب) كما يؤكد ابن تيمية - رحمه الله -. لقد احتفى علماؤنا بالتيسير وروي في ذلك عنهم الكثير, وتأمل معي في تلك الأقوال التالية:
يقول (قتادة): (ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم) (تحفة المولود، 80) وقال (سفيان الثوري): (إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التشديد فيحسنه كل أحد) (آداب الفتوى للنووي، ص 37). ويقول (ابن تيمية): (إذا فعل المؤمن ما أبيح له قاصداً العدول عن الحرام لحاجته إليه فإنه يثاب على ذلك) (مجموع الفتاوى: 7 - 48) ويقول (ابن القيم): (الرخص في العبادات أفضل من الشدائد) (شرح العمدة: 2 - 541) ويقول: (الكمال بن الهمّام) في (التحرير): (وكون الإنسان يتبع ما هو الأخف عليه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد, ما علمت من الشرع ذمّه عليه) ويقول: (الشاطبي) متحدثاً عن المفتي ذي الذكاء الفقهي واصفاً إياه بأنه ذلك الذي (يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل إلى طرف الانحلال) (الموافقات) (4 - 285) والإمام (النووي) يعلق على حديث (يسروا ولا تُعسروا وبشروا ولا تنفروا): (إنما جمع في هذه الألفاظ بين الشيء وضده؛ لأنه قد يعملها في وقتين، فلو اقتصر على يسّروا لصدق ذلك على من ييسر مرة أو مرات وعسّر في معظم الحالات, فإذا قال: ولا تعسروا انتفى التعسير في جميع الأحوال ومن جميع وجوهه وهذا هو المطلوب): (شرح النووي:)12 - 41 .
وصفوة القول: إن الموضوعية تقتضي الاعتدال والتوازن؛ فلا نندفع نحو الأحوط بشكل يفضي إلى التشديد والتنفير، وفي المقابل لا ننزع نحو اصطفاء لون من البعد التيسيري المؤدي إلى إذابة الحواجز بين المباح والمحظور وإنما المطلوب هو الجنوح نحو تكريس المنهج الانفتاحي الوسطي واعتماد الخط التيسيري المعتدل الذي يصور الإسلام بطريقة جذابة آسرة تحدو الجماهير للتقاطر عليه من كل حدب وصوب.
Abdalla - 2015@hotmail.com