Al Jazirah NewsPaper Wednesday  02/09/2009 G Issue 13488
الاربعاء 12 رمضان 1430   العدد  13488
دم برائحة الموت..!

 

من نافذة القول أن نقرر: أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بحفظ الضروريات الخمس، وحرمت الاعتداء عليها، ومن ذك: حرمة الاعتداء على الأنفس المعصومة. وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن)، قال -صاحب- عون المعبود في شرح الحديث، أي: (أن الإيمان يمنع من الفتك الذي هو القتل بعد الأمان غدراً، كما يمنع القيد من التصرف).

إن سفك الدماء الذي يشهده عصرنا الحاضر بشكل ملحوظ، هو واقع مؤلم، وجريمة نكراء، جرت على الأمة الإسلامية الويلات، بعد أن ضلت فيه أفهام، وزلت أقدام. فسفكت دماء المسلمين بنوع من التأويل غير سائغ، مع أن الله حرم سفك الدماء المحرمة تحت أي تأويل. وقد ذكرشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (ما حصل بمثل هذا التأويل من الشر والفتن، وأنه سفك به دماء قوم من المؤمنين وأهل العهد). وتأمل معي قول ابن القيم -رحمه الله- حينما تكلم عن حرمة سفك الدماء تحت أي تأويل: (وبالجملة فافتراق أهل الكتابين وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إنما أوجبه التأويل، وإنما أريقت دماء المسلمين يوم الجمل وصفين والحرة وفتنة ابن الزبير وهلم جرا بالتأويل، وإنما دخل أعداء الإسلام من المتفلسفة والقرامطة والباطنية والإسماعلية والنصيرية من باب التأويل، فما امتحن الإسلام بمحنة قط إلا وسببها التأويل، فإن محنته إما من المتأولين، وإما أن يسلط عليهم الكفار بسبب ما ارتكبوا من التأويل وخالفوا ظاهر التنزيل وتعللوا بالأباطيل. فما الذي أراق دماء بني جذيمة وقد أسلموا غير التأويل؟ حتى رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وتبرأ إلى الله من فعل المتأول بقتلهم وأخذ أموالهم. وما الذي أوجب تأخر الصحابة رضى الله عنهم يوم الحديبية عن موافقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير التأويل؟ حتى اشتد غضبه لتأخرهم عن طاعته حتى رجعوا عن ذلك التأويل. وما الذي سفك دم أمير المؤمنين عثمان ظلماً وعدواناً وأوقع الأمة فيما أوقعها فيه حتى الآن غير التأويل؟ وما الذي سفك دم علي -رضى الله عنه- وابنه الحسين وأهل بيته -رضى الله تعالى عنهم- غير التأويل؟ وما الذي أراق دم عمار بن ياسر وأصحابه غير التأويل؟ وما الذي أراق دم ابن الزبير وحجر بن عدي وسعيد بن جبير وغيرهم من سادات الأمة غير التأويل؟.. وما الذي أريقت عليه دماء العرب في فتنة أبي مسلم غير التأويل؟ وما الذي جرد الإمام أحمد بين العقابين وضرب السياط حتى عجت الخليقة إلى ربها تعالى غير التأويل؟ وما الذي قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي وخلد خلقاً من العلماء في السجون حتى ماتوا غير التأويل؟ وما الذي سلط سيوف التتار على دار الإسلام حتى ردوا أهلها غير التأويل؟.. وهل دخلت طائفة الإلحاد من أهل الحلول والاتحاد إلا من باب التأويل؟).

إن سفك الدماء بغير حق محرم في جميع الشرائع الإسلامية، وهو في الإسلام من كبائر الذنوب، وجعلها جريمة كبرى، ويعظم الجرم ويشتد الإثم حين تكون النفس مؤمنة، ووضع لها عقوبة مغلظة هي القصاص، وتوعد القاتل بأشد العقوبات في الدنيا والآخرة، قال تعالى: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا }. وزوال الدنيا أهون عند الله من قتل المسلم، لحديث: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم). كما أن حرمة دم المسلم أعظم عند الله من حرمة الكعبة، لحديث: (ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله جرمة منك ماله ودمه، وأن نظن به إلا خيراً). وهو أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة الدماء لعظم شأنها، لحديث: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء).

إن الدماء إذا سفكت بغير وجه حق تزرع الفتن، وتمحق البركة، وتجعل المجتمعات تعيش في خوف دائم، ولذا فإن تحقيق الأمن من أخص مقاصد الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، ومن ذلك قول إبراهيم -الخليل-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}، ففي الآية أن المجتمع الآمن هو الميدان لانتشار دعوة التوحيد ورسوخها.

فقط.. أختم بقصة أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- في الصحيحين، قال: (بعثنا رسول الله - صلى الله عليه سلم- إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشينا، قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ قلت: كان متعوذاً. فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم). فإذا كان المقتول رجلاً مشركاً بعد أن نطق بتلك الكلمة، فلم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم عذر أسامة وتأويله، ألا يدل ذلك على حرمة دماء المسلمين من باب أولى، وعظم جرم من يتعرض لتلك الدماء؟.

د. سعد بن عبدالقادر القويعي


drsasq@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد