الحمد لله الذي هدى العباد، الخبير الودود، قدّر ولطف، وما لنا عما قضى الله محيد، والصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود، والحوض المشهود، وعلى آله وأصحابه أهل الفضل والجود، وبعد:
من أين أبدأ، وماذا عساي أن أسطر وقد تسامع الجميع، وتناقلت وسائل الإعلام تلك الفاجعة التي أدركنا فيها لطف الله، ونجا منها أميرنا المحبوب برحمة الله. من كان يتصور أن رواسب الفكر المتطرف وحماقات أصحابه وتصرفات منظريه تتداعى، وتتطور حتى تبلغ بهم الجرأة والشرور إلى استهداف المجتمع برمته، من خلال استهداف ولاة الأمر، فماذا بقي؟ وماذا ينتظر من قوم تجاسروا على حرمة الزمان، وروحانية الوقت، وانتهكوا مواسم المغفرة والرحمة، ليفادي أحدهم بنفسه، ويلقى الله - عز وجل - وهو عازم على حصد ما يمكنه من أرواح المسلمين، لكن العجب يزول إذا علمنا خلفية هذا الفكر وخطورة آثاره على معتنقيه، حتى ليصل الحال ببعضهم إلى تكفير والديه وأسرته ومجتمعه، ولسان منطقه يقول: من لم يكن معي فهو ضدي، ومن ثم لا يتورع ولا يهاب أن يوجه أي سلاح ولو كان فيه حتفه، وينتحر زاعماً انه شهيد في سبيل الله ألا ساء ما يعملون.
إن هذه الحادثة التي آلمتنا وأقضت مضاجعنا، وآذت قلوبنا ومسامعنا ترسم فيها تطوراً خطيراً، وامتداداً عميقاً للفكر، وتحولاً إلى درجة لا يمكن تمريرها، أو التساهل بها مهما كان المبرر.
ولنا في هذا الحدث - الذي نحمد الله على قضائه فيه، ونحمده أيضاً على محدودية نتائجه، وسلامة أميرنا فيه - وقفات لعلها تكون عظيمة وعبرة، ومدكراً ومزهراً:
أولاها: اننا نحمد الله ونشكره على سلامة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز، مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية، من هذه المحاولة الآثمة، والجريمة النكراء، ونسأل الله - عز وجل - أن يجعلها سلامة دائمة وزوالاً لكل أسباب المكاره، كما نسأله أن يحفظ جميع ولاة أمورنا وأن يحرسهم بعينه التي لا تنام، وبركنه الذي لا يضام، واننا ببالغ السرور والبهجة والحبور نهنئ أنفسنا بهذه السلامة التي سرّت كل مؤمن، وكل مواطن غيور على أمن دينه ووطنه، ونعتقد أن وراء ذلك عناية الله ورعايته وحفظه للأمير ولولاة أمرنا، لأنهم حفظوا دين الله فحفظهم الله، كما هو عند الله: (احفظ الله يحفظك)، وما سعي الأمير المبارك، وجهده الدائب في الشؤون الأمنية بعامة، وفي معالجة الفكر المنحرف، أخذاً بتوجيهات القيادة الحكيمة، وعلى رأسهم ملك الحكمة والحنكة والسداد، خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وسمو ولي عهده الأمين، وسمو النائب الثاني، أمير الأمن والفكر إلا جزء من أعمال ولاة أمرنا في حفظ هذا الدين وتنقيته مما ألحق به أرباب الفكر المنحرف من شوائب لا تمت للدين بصلة، فالحمد لله ثم الحمد لله، ثم الحمد لله على لطفه في قضائه وقدره.
وثانيها: ان هذا العمل الإجرامي، والتصرف الجبان، وما يحمله في طياته من آثار سيئة وخطيرة، وما يستند إليه من خلفيات فكرية شريرة في سلسلة مظلمة من الانحراف من أخطر مراحل هذا الفكر، وأعظمه أثراً سيئاً، وأشده فساداً، لأن متابعة هذا الفكر وتداعيته تدل على التدرج في بنائه، فيبدأ فكرة، ثم حماسة، ثم عاطفة عاصفة، ثم فتنة هوجاء لا تقتصر على مجرد تحمل الفكر وتبنيه بل ترى المواجهة المسلحة، كما ان تبريرات هذه الأفكار تبدأ باستهداف غير المسلمين بحجج واهية، وتنتهي باستهداف الحكام وولاة الأمر، وأبناء المجتمع من علماء وغيرهم، هذا من وجهة نظر أصحاب هذه الأفكار ومنظريها، وبالنظر إلى أثر هذه المرحلة في المجتمعات نجد أنها من أكثر المراحل ضرراً وأثراً وخطورة، لأن الدولة المسلمة إذا استهدف ولاة أمرها وقادتها وصناع القرار فيها، وحصل ذلك - لا قدر الله - فلا تسل عما يحدثه ذلك من فوضى وفساد عريض.
وثالث تلك الوقفات: ولها صلة بما ذكرت آنفاً انه يجب علينا ان ندرك امتداد هذا الخطر الفكري ونستقرئ تاريخ أمتنا بدءاً من الصدر الأول من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حينما ظهر ذو الخويصرة التميمي، وواجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما واجه، وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن ذا الخويصرة ليس فرداً انتهى، وانما هي ظاهرة متكررة، تخرج في كل عصره، وربما تلبس له لبوسه، وذلك في قوله: (يخرج من ضئضيء قوم تحقرون صلاتكم وصيامكم إلى صيامهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)، فهذا التصرف السيئ يعد بذرة الشر ونبتة السوء، ولذا تكرر خروجهم مع عثمان - رضي الله عنه -، وامتد وبرز في عهد علي - رضي الله عنه -، وظهرت هذه الفئة على حقيقتها، وبصفتها التي أخبر عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما قصتهم مع صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خباب بن الأرت عنا ببعيد، لما ذبحوه أمام زوجته الحامل، ثم بقروا بطنها، ولم يرعوا إلا ولا ذمة، ولم تمنعهم مروءة ولا رحمة، لأن الفكر خطير، وسيتكرر مصداقاً لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كلما ظهر منهم قرن قطع)، فقد يقيض الله له من يكبت صورته، ويحد من جذوته لكنه يعاود الظهور بحسب البيئات، ولذا لا بد أن ندرك أنه لا يعالج بالاستسلام له، والتوقف عن مواجهته، بل الواجب مواجهته بحزم وحنكة، وبقوة الحق التي تدحره بإذن الله - عز وجل -.
ورابع تلك الوقفات: ان الواجب الذي تمليه علينا عقيدتنا، وتوجبه مسؤوليتنا أمام الله تجاه ديننا ووطننا يجب ألا يُقصر على فئة دون فئة، أو فرد دون آخر، بل المتعين على الجميع ان يدركوا عظم الخطر، وان سفينة المجتمع لابد من حمايتها من الغرق، وذلك بمواجهة هؤلاء المجرمين المنحرفين من الجميع، خصوصاً المؤسسات التعليمية والتربوية، والدعوية، والإعلامية، فلم يعد الموقف يحتمل تأخيراً أو تبريراً أو تعذيراً، بل الخطر داهم والفتنة عمياء، ولا بد من العمل الجاد المخلص، حتى يضيق الخناق على حملة هذا الفكر ورواد ثقافته الدموية والتكفير والتفجير، قطع الله دابرهم، وحسم ضررهم.
وخامس تلك الوقفات: ليدرك الجميع اننا لسنا بمنأى عن هذا الخطر، ولا ببعيد عن هذا الضرر، لأن فلسفة هذه الأفكار، وامتداد خطرها تُوقفنا على أننا أول مستهدف بعد ولاة أمرنا، والشبهة التي يحملها أولئك: ان من لم يكفِّر الكافر فهو كافر، فحصول الشر متوقع من مثل هذه الفئة المنحرفة، ولذا فلا يظن ظان ان نهاية مطالبهم هو الوصول إلى أحد ولاة الأمر أو رجال الأمن، بل الشريعة عند هؤلاء، نسأل الله أن يقينا فتنهم، وهذه الجزئية تُحمِّل الجميع مسؤولية التوحد والتعاضد والتكاتف والاجتماع على الحق، استجابة لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقضاءً على دعاة الفتنة.
وسادس تلك الوقفات: أن يقال: وإذا كنا في خطر، ولسنا بمنأى عن هذه الفئة (فلا يعني هذا التسوية بين استهدافنا واستهداف ولاة الأمر، حاشا وكلا، بل من الأمر المتقرر، والقاعدة المطردة ان التصرف يعظم، وتكبر مفسدته بحسب الآثار والنتائج المترتبة عليه، ولا يخفى على ذي لب وبصيرة ان ولاة الأمر هم صمام أمان المجتمع، وهم أساس قيام المجتمع، وعليهم المعول - بعد الله - في صلاح أحوال البلاد والعباد، ولذا فاستهدافهم، والنيل منهم بقول أو فعل أو تصرف إجرامي أشد وأعظم جرماً، وأكبر فساداً، لأن باستهدافهم تحصل الفوضى والفساد، وبالنيل منهم تهدم أصول ومعالم شرعية، وهذه الجزئية لبيان حتمية المواجهة، ووجوب التصدي لهذا الفكر ما دام انه بلغ هذا المدى الخطير.
وسابع تلك الوقفات: ما من شك ان هذا عمل إفسادي، بل من أبرز صور الفساد، وقد تضافرت النصوص، وتكاثرت واجمع العلماء على تجريمها والتبرؤ من فاعلها، وقد كان لنا بيان مفصل مؤصل، ووقفات كثيرة في بيان حقيقة الإرهاب، وموقف الشريعة منه، والهدف هنا ان نؤكد على ان الشبهات التي يستند إليها أصحاب هذه التصرفات لا تبرر لنا أن نتوانى، فقد قال العلماء مقولتهم، وظهر حكم الله في هؤلاء المفسدين.
واخيراً.. إن هذا العمل وقع لأمير فاضل، وقائد شهم، كان له دور كبير بتوجيه من ولاة أمرنا وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وسمو ولي العهد الأمين الأمير سلطان بن عبد العزيز، وسمو النائب الثاني صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز - حفظهم الله وأمد في أعمارهم على الطاعة والإيمان - في رعاية هذه الفئة واحتواء ضررهم بالحنكة والحكمة والسداد، وبيان الحق بالطرق المُعتبرة وتوفير كادر يقوم على المناصحة وتأهيل هذه الفئة، وما دخول هنا الشخص وجعله الله بما يستحق، واستقبال صاحب السمو الملكي أكبر دليل على ما يبذله لمعالجة هذا الفكر أمنياً وشرعياً ونفسياً واجتماعياً، ولكن هذا التصرف الأرعن والعمل الجبان دليل على أن أصحاب هذا الفكر لا أمان لهم، ولا يفيد معهم الإحسان.
وبعد:
فإن الواجب بعد هذا الإجرام المتكرر أن نتأمل واقعنا، ونتدبر أمرنا، وأن ندرك ان هذه الأفكار تتحول إلى أعمال تتسم بالتخطيط وتتم بتضافر جهود شيطانية، وقوى شريرة اجتمعت على أمن هذه البلاد ومقدراتها ومكتسباتها، وأن الحزم كل الحزم أن يتحمل كل منا مسؤوليته، وان ينطلق في حكمه وتصرفاته مما يوجبه عليه دينه وأمانته ومسؤوليته فنواجه هذه التحديات، ولا يقف دورنا عند مجرد الاستنكار والتأثر السريع، بل لابد من عمل مخلص، وجهد دائب، ومتابعة دقيقة، ومواجهة تقوم على النصح لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين، والثقة في نصرة الله وتأييده وحفظه، والله الله في الدعاء في شهر القرآن بأن يحفظ الله هذه البلاد وقادتها وعلماءها من كل سوء ومكروه، وأن يرد عنا كيد الكائدين، وفساد المفسدين، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
* مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية