بالفعل وكما أشار الكاتب محمد العلي في مقدمته للكتاب كان كتاب (الفكر والرقيب) مفاجأة للساحة الثقافية عند ظهور، هذا الكتاب الذي ألفه الكاتب محمد القشعمي والذي صدر عن دار الكنوز الأدبية ببيروت قبل أشهر، جاء ليؤكد الجرأة في الطرح من قبل الكاتب، ويقرر واقعاً موجوداً منذ القرون الوسطى، فالرقيب على الكلمة وعلى الفكر لم يكن وليد اليوم، وإنما يؤكد لنا التاريخ حقائق عن وجود الرقابة...
... التي كانت تستهدف منع الكُتاب من إيصال كلمتهم إلى الجمهور من القراء خوفاً من تأثير هذه الكلمة عليهم، تلك التأثيرات التي يمكن لها أن تجيش هؤلاء أو تجعلهم معادين للحكومات، وإن كانت الحكومات هي المعول الأساس لصناعة الرقيب، إلا أن هناك معاول أخرى تمثل رقيباً آخر، منها مثلاً الرقابة الاجتماعية ذات التأثير القوي على الكاتب، كذلك الخوف من الكلمة لم يتوقف على ما ذكرنا إنما تجاوز ذلك إلى التأويلات ذات النظرة الأحادية للنص المكتوب والتي تقرر في لحظة من اللحظات أن هذا العمل يمس المجتمع أو العادات أو الدين، ويعمل على هدم واحدة من الثالوث الذي أشرنا إليه، هذه الرقابة هي التي أدت إلى الشعور بالخوف لدى كثير من الكتاب والتي انعكست على تقهقر الكثير من الكتاب -أصحاب الطرح الجريء- وتراجعهم وربما توقف بعضهم من تلقاء نفسه، خلاف الكتاب الذين تم إيقافهم.
والكتاب الذي قدمه القشعمي للساحة الثقافية يطرح الكثير من الأسماء التي توقفت عن الكتابة -إما بسبب الخوف الداخلي- أو تم إيقافها ويعطي شواهد محلية، منذ بدايات الصحافة في المملكة في عهد صحافة الأفراد إلى أن تحولت إلى صحافة مؤسسات، ويسرد نماذج لحقبة تاريخية تمتد حتى يومنا هذا، أنها تشير إلى صناعة رقيب آخر بخلاف الرقباء الذين أشرنا إليهم -كرقباء حقيقيين- تشير إلى صناعة رقيب داخلي لدى كل كاتب يجعله يراجع مادته المكتوبة، ويفكر كثيراً في كل ما يكتب قبل أن يبعث به إلى صحيفة لنشره، أو يدفع به إلى المطابع إن كان كتاباً لطباعته، إننا أمام كتاب متميز، خاصة وأننا في كتابتنا عن الصحافة كثيراً ما نشير إلى البدايات الفعلية للصحافة في أوروبا في القرن السادس عشر والتي صوحبت برقابة تسمى (الرقابة القبلية) أي مراقبة المادة المكتوبة قبل نشرها، وهي التي كانت تفرض أن تتم قراءة تلك المادة من قبل الرقيب والإذن بالنشر من عدمه، ثم تحول الأمر مع بدايات تحول المجتمع الغربي إلى الدعوة للحريات: حرية القول، وحرية التعبير، وحرية الصحافة، في القرن الثامن عشر التي أصبحت فيما بعد السلطة الرابعة.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في كثير من الأوساط الصحفية العربية منها والغربية، هل حقاً الصحافة تعتبر سلطة رابعة؟.. أليست هناك رقابة في كثير من الدول، أن لم نقل كافة الدول، أليس هناك منع للنشر في بعض الحالات حتى في الدول المتقدمة -التي تدعي الحرية الكاملة للصحافة- حتى وإن كانت مساحة الحرية أحسن حالاً من الدول العربية؟.. ولهذا نجد أن مساحة الحرية تضيق وتتسع بحسب مكان صدور الصحيفة، لكنها على كل حال في الدول الغربية تعتبر واحدة من أساليب الرقابة التي تسهم في محاسبة حتى المسؤولين، ولهذا ظهرت فضيحة صحيفة النيويورك تايمزالتي أدت إلى سقوط قيادات تحريرية هامة بها بسبب قيام صحفي شاب يدعى جيسن بلير الذي كان يقوم بسرقة جهود الآخرين ثم يوقعها باسمه وتنشرها الجريدة العريقة وبات لصاً صحفياً محترفاً يجيد الفبركة، وهنا يكمن دور الرقابة أيضاً حتى على السلطة الرابعة ذاتها، إن كانت سلطة أصلاً، لكن في كثير من صحفنا العربية لا يحصل أقل من ذلك بكثير، حيث إن عمليات تدوير الأخبار من الأساليب التي تعد احترافية لدى كثير من الصحفيين العرب حتى لو كان ذلك على حساب مصالح دولهم ومواطنيهم.