كثيرة هي الفضائح ومتنوعة، ولا تخلو منها مجتمع من المجتمعات، وقد يهتز مجتمع ما من فضيحة أصابته وإن تضاءل أثرها، وقد لا يتحرك آخر ولا تنتفض له جارحة لفضيحة ألمت به أو بمجتمعه ولو تعاظم أثرها، وكلنا يذكر (فضيحة ووتر قيت)، والتي تعد بحق أشهر فضيحة سياسية في تاريخ الولايات المتحدة، أدت إلى الإطاحة بالرئيس نيكسون الذي وُصم بأنه أول رئيس في تاريخ البلاد يُجبر على الاستقالة من منصبه.
الفساد، ويعد المهد الأنسب لتوالد الفضائح، تتعدد جوانب تشخيصه بقدر ما تتنوع محاور مواجهته على كافة الأصعدة، ولا شك أن كل مواجهة فعالة وناجحة تتوقف على تشخيص دقيق وصارم، ويتحدث العالم اليوم عما توصل إليه العقل البشري وما تنتجه مراكز الدراسات الغربية في ميدان العلوم الإنسانية، حيث ظهر ما يسمى ب(علم الفضائح Scandalogy)، إيماناً منهم بأن مقاومة الفساد واجتثاثه لا يتأتيا إلا عن طريق فضح المفسدين والتشهير بهم. وبالطبع تأتي في قمة الهرم الفضائحي، الفضائح الأكاديمية، لأنها تصيب السويداء من القلب كما تصيب عقل الأمة وإرثها الأخلاقي.
الحصول على درجة الدكتوراه يعد بحق قمة الإنجاز والإبداع الأكاديمي، ومبتغى كل مثابر طموح، فالدرجة لها وزنها، ترتقي بصاحبها وتسمو بعقله وتجعل بينه وبين غيره مسافة وربما مسافات من التبحر والإدراك، للوصول لتلك المكانة والتربع على ذلك العرش الأكاديمي الفاره، لذا نجد أن الناس اتخذت سبلاً شتى ووسائل متعددة، حتى ولو خالفت الأعراف والقوانين ونجح بعضهم، الأمر الذي ذهب ببعض وهج ذلك الرمز الأكاديمي المقدر.. وبالأمس القريب اهتزت الأوساط الأكاديمية الألمانية وارتعش ذلك الهيكل العلمي السامق، ووصل الأمر إلى ردهات المحاكم وأروقة الجامعات. باختصار أصيبت الأوساط العلمية في مقتل والفضيحة هزت نظام التعليم العالي الألماني، وكان يعد بحق مفخرة الألمان ومصدر زهوهم.
في 22 أغسطس، كشف عدد من كبار القضاة والمستشارين الألمان، بأنهم يتحرون ويجرون تحقيقاً مع حوالي مائة من الأكاديميين في عدد من الجامعات الألمانية المرموقة، والتهمة الموجهة إليهم هي قيامهم بمنح درجة الدكتوراه لعشرات من الطلاب غير المؤهلين مقابل رشوة مالية تسلموها من شركة استشارية. كما ذكرت، الفضيحة هزت بحث البيئة الأكاديمية الألمانية، لأنها مست إحدى المقدسات التي طالما تغنت بها الأمجاد الألمانية.
التحريات أعقبت عمليات الاقتحام التي تمت بواسطة الجهات الأمنية المسؤولة لهيئة استشارية أكاديمية تسمى (معهد التوجيه العلمي) بمدينة يبرقش قلادباخ بغرب ألمانيا وذلك في مارس 2008 اكتشفت السلطات منجماً من المعلومات تشير معظمها إلى مناشط غير شرعية، حيث قامت بمصادرة آلاف الملفات، تشتمل بعضها على عقودات بين الشركة وأساتذة الجامعات، ومستندات خاصة بتحويلات مالية تمت عن طريق بعض البنوك، القضاة والمستشارون بمدينة كولين يؤكدون بأن المعهد قدم مساعداته لعدد من طلبة الدكتوراه بأن أوجدت بعض المشرفين الأكادميين للإشراف على مسار الرسائل العلمية المختلفة، كما قامت بالدفع لعدد من المحاضرين لدعم هؤلاء الطلاب، وبالفعل أبانت التحريات بأن بعض طلبة الدكتوراه قاموا بدفع ما مقداره 30.000 دولار للحصول على لقبهم العلمي. جونثر فيلد، من كبار القضاة بمدينة كولين، صرح لمجلة (تايم)، بأن كثيراً من الطلاب حصلوا على الدرجة المتوسطة، وهي درجة لا تؤهلهم للتقدم لنيل الدكتوراه.
تحت مواد القانون الجنائي الألماني، فإنه غير مسموح قانونياً للعاملين في الخدمة العامة، وهي مجموعة تضم محاضرين وأساتذة جامعات، بأن يمنحوا امتيازاً لشخص دون الآخر، وأن يكون معيار التفاضل بين الطلاب هو التفوق والارتقاء الذي يبديه الطالب في مساره الأكاديمي.
لم يعلق القضاء كثيراً على الموضوع، كما لم يفصلوا فيه، بل أكدوا على تركيزهم على الأساتذة الذين تلقوا رشوة أكثر من تركيزهم على الطلاب.
عملية (النصب الأكاديمي) الأخيرة اشترك فيها عدد من الأفراد، سجن بعضهم، أحد مديري الاستشاريات في يبرقش قلادباخ، اتهم باستلام رشوة في يوليو 2008 وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات، وكانت جريمته التي ارتكبها عبارة عن مساعدات قدمها لأكثر من 60 طالباً للحصول على اللقب العلمي. كذلك سجن أحد أساتذة القانون بجامعة هانوفر لمدة ثلاث سنوات لأنه استلم مبلغاً من المال من مستشاريه مقابل قبوله لبعض طلاب الدكتوراه، بعدها شددت الجامعة من إجراءاتها. (لقد قمنا بتجريد 9 من حملة الدكتوراه)، هذا ما صرح به هننج رادتك، عميد كلية القانون بجامعة هانوفر لمجلة تايمز الأمريكية، وهم الآن أي الطلاب المجردين يستأنفون الحكم لدى محاكم أخرى.
إن هذه الفضيحة كانت بمثابة كارثة للنظام التعليمي الألماني، فمن غير المقبول استلام معلم جامعي استوثقته البلاد على فلذات عقولها، لرشوة تافهة مهما بلغت قيمتها مقابل قبول طالب لم ترتق به مؤهلاته.
وذكرت بعض المصادر المقربة من أوساط أكاديمية في دائرة صناعة القرارات، بأنه سمع بعض الخبراء التربويين يتحدثون عن تجارة غير شرعية متفشية في مجال الحصول على اللقب الأكاديمي بألمانيا، مدفوعين برغبات قوية من قبل الأفراد على الحصول على الدرجة العلمية.
إن التحريات التي تجرى في كولن، أظهرت فقط قمة الجبل الجليدي، فهناك العشرات من المستشاريات الأكاديمية دخلت السوق منذ سنوات تمنح الدكتوراه مقابل مبلغ معين للدرجة العلمية، وقد قدرت بعض الأوساط المقربة بأن حوالي 25.000 درجة دكتوراه تمنحها الجامعات والدوائر الأكاديمية الألمانية سنوياً، منها حوالي 1000 درجة تمنح بطرق غير شرعية.
الغريب أن هذه المستشاريات تقوم بالإعلان في الصحف التجارية مدعين بأنهم يمنحون خبراتهم في مجالات تدريبية، وهي إشارات أو إيماءات متفق عليها وهي متداولة في هذه الأوساط.
عملية التجارة الأكاديمية هذه، مربحة لأبعد الحدد، لدرجة أنها أغرت حتى أولئك العلماء الذين كانوا ملء السمع والبصر، أن يتنازلوا بكل بساطة عن ذلك السمو العلمي جرياً وراء الدنيا وزينتها. إن تلهف الألمان وسعيهم الدؤوب للحصول على درجة الدكتوراه، وبشتى السبل، هي في المقام الأول من أجل تأمين الحياة الرغدة السهلة التي تيسرها تلك الشهادات ببريقها ولمعانها.
القضاة ما زالوا يتحرون مع عدد من مديري بعض المستشاريات، والتي أغلقت بأمر السلطات المحلية، هذه المستشاريات الأكاديمية مرتبطة بالأساتذة على مستوى القطر الألماني بكامله، فهي بشكل أوضح عبارة عن شبكة منتشرة على امتداد البلاد، تنفث سمومها، بعد أن اختارت أخطر الحقول وأهم الميادين لتحيلها بعد ذلك جثة هامدة تتوالى على أثرها كل أثر جميل على هذه الأرض.
إن العقاب المستحق لمثل هذه الجرائم، طبقاً للقوانين الألمانية، حوالي خمس سنوات سجن كأقصى حد للعقوبة، أو ما يعادل تلك السنوات من الغرم المالي، وكلها تعد عقوبات مخففة إذا ما قيست بالانهيار الذي أصاب الإرث الأكاديمي القائم على أخلاقيات المثل العليا. أما الضربة القاصمة، فقد أصابت تلك الفئة ممن حازوا على الشهادة وتشرف بهم اللقب، فالضربة موجعة لهم لأنهم بذلوا في سبيل الحصول عليها كل غال ونفيس وها هم يشهدون نهايتها ويقرؤون نعيها.