عقلي لا يطاوعني على التحول من التفكير من لغة لأخرى والعمل بها إلا بصعوبة بالغة لدرجة صرت أواجه الكثير من العنت وأشعر بالتعثر كلما حان موعد كتابتي لمقالي الأسبوعي بالجزيرة. هذا ومع من إن كتابة مقال الجزيرة هي مدة الياسمين الوحيدة التي علقت يدي على جسرها الشفيف مع بعض رسائل الجوال لأحافظ على علاقتي التفكيرية باللغة العربية خلال تفرغي العلمي،
فإن رومانسية علاقتي الشعرية باللغة العربية والتزامي الوجداني والمعنوي بمواصلة الكتابة الأسبوعية في الجزيرة رغم انغماسي في مشاغل عمل أخرى لم تشفع لي من الاعتراف بمشقة التنقل على مستوى التفكير والكلام والكتابة والمحاضرات من لغة لأخرى. والمزعج أكثر أن بعض أدوات التفكير وجدت مساندة وتشجيعا من أدوات الكتابة فكانت تتواطأ بمكر مع جهاز أبل ماكنتوش الذي اشتريته قبل ما يقارب ستة أشهر وكنت قد حدثتكم في حينه عن نوبات العصيان العنيدة التي كان يجعلني عرضة لها كلما أردت تحويل مؤشر الكتابة من اللغة الإنجليرية للغة العربية. فما أن أكتب بسم الله... في أعلى الصفحة وأشمر ساعدي لأدخل إلى صلب الموضوع أو حتى ديباجته إلا ويتحول المؤشر من تلقاء نفسه عن اللغة العربية إلى اللغة الأخرى. ولولا أنني أحاول أن أتحلى بالتفكير العلمي وأنأى بنفسي عن وسواس نظرية المؤامرة لجزمت أن في الأمر (إنَّ)، أبعد من مجرد صعوبات تقنية في التحول من لغة إلى لغة على مستوى جهاز الكمبيوتر وعلى مستوى تنقل التفكير بين لغتين. وإن كنت طالما نظرت بإعجاب شديد لقدرة إدوارد سعيد على الإنتاج المتميز والحديث الطلق باللغتين العربية والإنجليزية، فقد قرأت لأكثر من كاتب ومفكر عربي ممن تنقلوا في الكتابة والتدريس أو إلقاء المحاضرات بين لغتهم الأم وبين لغة أخرى كاللغة الإنجليزية أو الفرنسية عن تجربة الارتباك العقلي والإحراج الوجداني والأدبي التي كانوا يمرون بها في التحول من لغة إلى لغة رغم إتقان بعضهم الأكاديمي للغتين ومنهم حليم بركات وليلى آبواللغد وشربل داغر وهشام شرابي. وقد تحدث بعضهم حديثا شجيا يكشف عن نوع من اللوعة التي قد يعانيها الإنسان في عملية التعبير في الخطاب الشفوي وفي الكتابة معا بلغتين. وفيهم من يرى أن اللغة ليست مجرد وعاء للمضمون بل إن هناك تشابكا بين المعزل وبين اليد التي تحمله بما يصعب معه التفكير باللغة والأداء باللغة أخرى دون صبر ودربة قد لا تصل بالمرء إلى مستوى الرضا عن أدائه في أي من اللغتين. وهذا يعني أن نسجل إعجابا آخر بالكثير من طلاب ومتخصصي العلوم العلمية في المجالات الطبية والتقنية وما إليه لأنهم ينتقلون بين لغتين وبين نظامين مختلفين للتفكير خاصة إذا كانوا يعيشون في العالم العربي دون أن يصابوا بانفصام الخطاب.
وعودة إلى وضع (توزعي) اللغوي الذي والحمد لله يشارف الانتهاء، فإن صعوباتي مع كتابة المقال والمحافظة على مساحة وقتية لوصوله بمراعاة فارق التوقيت الذي يجعل صدور الجزيرة يسبق نهاري بيوم فقد كان هناك تعذر استقبال وفتح ملفاتي المرسلة عن طريق جهازي العصي على أجهزة الصحيفة. قد تتسع صدوركم وتضحكون وقد تشيحون بسخرية من تضييع وقتكم بهذا العبث ولكن الشكوى لله فقد عابثتني لغتي وعابثني جهاز الكمبيوتر وأنا على سفر بما كان يكفي لأن أكتب مسرحية من أدب اللامعقول فأعيد المجد لمسرح العبث خاصة وقد صار وصول المقال عند الزملاء غير مضمون فهو مثل انتظار جودو قد يأتي وقد لا يأتي.
ختام
وأختم بهذا الشعر المعبر عن حنيني إلى لغتي إلى توقيتي إلى تراب شارعنا إلى شوربة أمي الحب إلى مشاعل البكر إلى حسناء أبوخالد وطفلها إلى طريق الثمامة وارتفاع الأذان بمسجد الجوهرة الفوزان بالربيع، إلى دخلة لينا وغسان وهلة طفول من بساتين نخيل العنبرية وأحواض النعناع المديني. وهذا المقطع الشعري هو للشاعرة والناقدة سلمى الجيوسي:
أتعبتني المآذن
تمسك بي
كلما سرت غربا
كأني عثرت
ويعاتبني صوت المآذن
صوت المآذن
يعاتبني
بعد كل صلاة
كأني فررت.