للمجالس حرمتها وخصوصيتها، وللجليس أيّاً كان حقوقه وواجباته. من دون علم منك قد يسرك ما يسوؤه أحياناً، ومن غير قصد قد تسيء إليه من حيث لا تشعر وتعي. جل أو كل ما تعلمناه من (آداب المجالس) لا يتجاوز أهمية حسن الإنصات للمتحدث، أو اللباقة في الحوار،....
.....إلى ما هنالك من أدبيات مختلفة تتصل بالمكان، لكن الكاتب، الأديب (ابن المقفع) وبحسه المرهف، وذائقته الرفيعة، ودرايته بأحوال الناس وأخلاقهم يلتفت إلى ما قد يتطارح فيها من الحديث، وما يتهامس فيه المتهامسون غير ما أسلفناه، أو يسوقه الآخرون بأسلوب تقليدي، حين قال: (إذا كنت في مجلس أو جماعة فلا تعمن جيلاً من الناس، أو أمة من الأمم بشتم ولا ذم).
* على النقيض من هذه العبارة قد نسرف كثيراً بتمجيد الماضي، ونبالغ في تعداد محاسنه وإيجابياته وإنجازاته بصورة مثالية نخرج منها بازدراء كبير ومؤثر لواقعنا المعاش، ونزهد في وقائع حياتنا المعاصرة تبعاً لذلك، لكن هذا في تقديري أخف وقعاً، وأقل أثراً من استهجان واحتقار الماضي، أو من يمثلونه، في مبادئهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، وقيمهم، وسائر سلوكهم، إذ إن ذلك من خصائص الزمن الذي عاشوه وتعايشوا معه، وطبيعة الحياة التي صاحبتهم وألفوها، وانسجموا معها كل الانسجام.
* بلا شك، قد يخدعنا بريق الحضارة، وقد تأسرنا مشاهد التطور، وقد يأخذنا زخم الثقافة من حولنا، ولو أننا أنصفنا الأجيال الماضية، وتتبعنا مسيرتهم بوعي وإدراك وعقلانية، ودون تنكر لمآتيهم العظيمة، لعرفنا أنهم هم الذين وضعوا لبنات ذلك الواقع الذي نزهو به ونفاخر، وأسسوا جاهدين بكل ما يملكون وما يستشرفونه حتى صرنا إلى ما صرنا إليه من رقي.
* وأسوأ من انتقاص الماضي والإسقاط عليه في نظري، هو النظرة المتعالية أو الفوقية على أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب، مهما اختلفنا معهم في الثقافة، وتقاطعنا معهم في المصالح، ونحن في هذا نقرّ بالتفاضل الموجود، ونؤمن كل الإيمان بما ورد في محكم التنزيل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، لكن هذه الأفضلية مرجعها ما فسره المفسرون، وليس بما نفسره نحن في سلوكنا وتعاطينا معهم، وليس بخافٍ علينا معيار المفاضلة بين البشر، والتي مدارها التقوى في تعاليم الإسلام الخالدة.
* من الثابت أن هناك أضراراً اجتماعية ونفسية هي في الحقيقة تمسنا كمجتمع مسلم من جراء هذا السلوك الفردي قبل أن تنال من الغير وتؤذيه، فهي تعكس أحياناً حالات من الغرور والتباهي والإفلاس والمكابرة الذي لا يتكئ أحياناً على موروث، أو أساس جدير بالمفاخرة والمباهاة، ومن شأن ذلك الانطباع السلبي في حال استقر في أذهان الآخرين عنا أن يجلب علينا المزيد من الحقد والكراهية والبغض، وتأليب الآخرين من حولنا، وعدم القبول التام لما نقدم أو نحاول تسويقه عن بلدنا المقدّس، وعن مجتمعنا المتحضّر، وعن ثقافتنا العريقة، وعن حضارتنا السائدة. إذن هل فكرنا أن نكون في هذا السلوك سفراء لبلدنا، وممثلين لثقافتنا في المجالس والمنتديات التي قد تضمنا في بعض المناسبات، في الداخل والخارج.