تابعت كغيري من المهتمين بالميدان التربوي الخطوات النوعية والإجراءات التطويرية التي اتخذتها وزارة التربية والتعليم في الآونة الأخيرة، وذلك على مستوى تطوير المناهج أو مستوى تدريب المعلمين والكوادر التربوية المختلفة، إضافة إلى مدى التقدم في مجال البنى التحتية، وتحديداً فيما يخص مشاريع المباني المدرسية.
.. ولا شك فإن الوزارة تحاول بهذا الوصول إلى تحقيق الأهداف التعليمية الوطنية آخذةً في الاعتبار الكم والكيف. لكن ما ألحظه كواقع لم تنله لمسات التقدم هو حجم الفصول في المدارس الحكومية. ففي الغالب تجد سعة حجرة الصف ما بين 30 - 40 تلميذاً، ولعدم وجود تنظيم واضع يحدد السعة القصوى للحجرة الدراسية، تجد حجم الفصل يتذبذب بحرية تامة، وقد يزعم البعض أن السبب يكمن في محدودية الإمكانات المدرسية (عدد المدرسين، عدد الحجرات المتاحة)، لكن التشبث بهذا الإدعاء لن يؤمّن الوصول إلى حل. لأن كل مدرسة - في الحقيقة- لها إمكانية محددة أصلاً، والخطأ هو في الخروج عن مستلزمات واستحقاقات العملية التربوية والتحول من التقيد بالمعايير المهنية إلى (الارتجالية) و(العشوائية) في تحديد استيعاب الحجرات الصفية، مما يؤدي ذلك إلى زيادة أعباء المدرسة بما لا تطيق، بل يجعلها عاجزة عن تطبيق الممارسات التربوية الحديثة. فالأصل -كما يحثُ عليه خبراء التربية وما هو معمول به فعلياً في الدول المتقدمة تعليمياً- هو أن كل مدرسة لا بد أن تعمل في حدود إمكانياتها (طاقمها التعليمي ومرافقها) بحيث لا تزيد سعة حجرة الصف عن السعة المثلى والمحدد في أغلب الأحوال بـ(20) تلميذاً. ولهذا يكون من غير المنطقي أن نعتقد بأن محدودية الإمكانيات يمكن أن تُملي على المدارس التمدد العشوائي في حجم الفصول الدراسية وبما يزيد عن قدرتها وإمكانياتها الفعلية.
إن إشكالية تضخم الفصول المدرسية لعلها من أعظم معوقات تحقيق الأهداف التعليمية الوطنية الشاملة، فإذا كان توجّه المسؤولين في التربية والتعليم يسير نحو تطوير أركان العملية التعليمية أملاً في الارتقاء بجودة مخرجات التعليم العام، فلا بد أن يشمل هذا التوجه إيجاد حلول لمشكلة تضخم عدد طلاب حجرة الصف. إذ إن حجم الفصول في مدارسنا حالياً يشكل حجر عثرة أمام تطبيق الخطط التطويرية التي تنتهجها الوزارة في سبيل النهوض بمخرجات التعليم.. إن زيادة عدد التلاميذ في حجرة الصف (30 -40 تلميذاً مثلاً) ينتج عنها آثار مناوئة لأساليب التدريس الحديثة ومن هذه الآثار مثلاً:
- صعوبة تطبيق أسلوب التعلم التعاوني الذي يتطلب تقسيم التلاميذ في مجموعات صغيرة، أو أسلوب التعلم بالاكتشاف الذي يتطلب وسائل ومعينات تعلم، أو التعلم بالمناقشة الذي يستلزم إتاحة الفرصة لجميع طلاب الفصل في المشاركة في المناقشة والتفاعل الصفي (المعلم، الطالب والطالب، الطالب). هذا فضلاً عن تضاؤل أو انعدام قدرة المعلم على المزاوجة بين أسلوب الإلقاء وأحد الأساليب السابقة الذكر في حالة الفصول المزدحمة بالتلاميذ.
- زيادة أعباء المعلم في متابعة سير التعلّم الصفي وفي تقويم التلاميذ وفي الكشف عن نقاط القوة والضعف لديهم.
- في الفصول كثيرة العدد وبسبب عدم قدرة المعلم على تنويع طريقة التدريس (حسب ما تقتضيه المادة الدراسية)، يتحول -في الغالب- هدف فهم الحقائق والمفاهيم والمعلومات وغيرها من عناصر المادة الدراسية إلى مجرد الحفظ.
- عدم قدرة المعلم على المراجعة الدقيقة للواجبات والأنشطة الدراسية أو إعطاء تغذية راجعة (ملاحظات شفهية ومكتوبة) للتلاميذ بشأن مستوى تقدمهم (بصورة فردية).
- صعوبة تحقيق نسبة مُثلى من الاستحواذ على انتباه التلاميذ أثناء الحصة الدراسية.
- يصعب على المعلم تطبيق الأساليب الصحيحة في الإدارة الصفية، فمثلاً يكون في الغالب من الصعب على المعلم السيطرة على بعض السلوكيات السلبية داخل حجرة الصف الكبيرة، مثل الشغب الصفي، النعاس والنوم و.... إلخ. أيضاً قد يصعب على المعلم تطبيق أساليب التعزيز السلوكي، أو استخدام طرق استثارة دافعية التلاميذ للتحصيل.
- الفصول كثيرة العدد تُضعف من قدرة المعلم في ممارسة الضبط الصفي مما ينمي سلوك الشغب وعدم الانضباط لدى بعض التلاميذ.
هذا إلى جانب حقيقة أن الفصول المكتظة بالتلاميذ تساعد على سرعة انتشار الأمراض المعدية خصوصاً التي تنتقل عبر الوسط الهوائي (الإنفلونزا بأنواعها، مثلاً).
وفي هذا الصدد ومن خلال متابعتي لما نُشر في صحيفة الجزيرة (العدد 13493، بتاريخ 17 رمضان 1430هـ) عن خطة وزارة التربية والتعليم للحد من انتشار إنفلونزا الخنازير (H1N1A) في المدارس والتي استندت فيها على (الوثيقة المقدمة من أعضاء اللجنة العلمية الوطنية للأمراض المعدية بوزارة الصحة) إلى جانب مصادر أخرى، فقد حددت خطة الوزارة الحالات التي تعلق فيها الدراسة بمدارس التعليم العام من خلال سبعة بنود، ومن بين بنود الخطة: تقفل المدرسة لمدة سبعة أيام (إذا بلغت نسبة الطلاب الذين ظهرت عليهم أعراض الإنفلونزا 10% بحد أقصى من طلاب المدرسة خلال الأسبوع الواحد -العدد التراكمي خلال أسبوع من بداية ظهور الحالات-).
فإلى جانب مثل هذه الإجراءات والتي ربما تتعدى الوظيفة الوقائية إلى ما يشبه إجراءات (إدارة أزمة وبائية)، إلا أنها لم تتضمن شيئاً فيما يتعلق بتخفيف الكثافة الطلابية داخل حجرات الدراسة أو في أماكن الأنشطة المدرسية التي تتطلب عادة تقارب أو احتكاك بين الطلاب (طابور الصباح، المعمل، المقصف ... إلخ). ولا أدري ما إذا كانت اللجنة الموقرة المكلفة بوضع الخطة قد درست الجدوى الوقائية لإعادة توزيع الطلاب (داخل الفصول) في مجموعات صغيرة لتحقيق أكبر قدر من التباعد المكاني بين الطلاب. أيضاً هل بالإمكان وهل من المفيد في مثل هذه الحالات الطارئة تحويل الدراسة في المدارس كبيرة العدد إلى فترتين (بتقسيم الطلاب إلى مجموعة صباحية ومجموعة مسائية)؟.. أرجو أن يتسع صدر المسئولين في وزارة التربية والتعليم -وفقهم الله- لمثل اقتراحاتي وتساؤلاتي هذه.
وأخيراً أود أن أشير إلى أنه قد بات من المؤكد لدى خبراء التعليم ومن خلال دراسات علمية لا يتسع المجال للحديث عنها.. إن أحجام الفصول المدرسية تعد من المتغيرات الأساسية التي يُعلق عليها إلى درجة كبيرة جودة مخرجات التعليم العام. وبشيء من الإيجاز، فمع ضرورة توّفر مستويات جيدة من أركان العملية التعليمية (المناهج، المعلم الكفؤ، البنى التحتية) فإن العملية التعليمية لا يمكن تنفيذها بكفاءة ما لم تُخفض أعداد الفصول المدرسية الكبيرة إلى السعة المُثلى، لأن الفصول ذات الأعداد الكبيرة من الطلاب تُقلل فرص تطبيق الأساليب الحديثة في التدريس إلى جانب بروز بعض المشكلات الأخرى التي سبق الإشارة إليها، أما الفصول ذات السعة المُثلى (في حدود 20 تلميذاً) فيسهل معها تطبيق مختلف الأساليب الحديثة في التدريس، وبالتالي زيادة فرص الرقي والنهوض بمستوى العملية التعليمية إلى مستوى الجودة المنشود بإذن الله تعالى. وهنا أود أن أشير إلى ضرورة إعطاء أولوية لإصلاح هذا الجانب في النظام التعليمي، لأن تركه دون تغيير لن يمكننا من رؤية أي تقدم بشأن جودة مخرجات التعليم العام، فضلاً عن أن تجاهل هذا الجانب سيزيد بدوره من عبء التطوير في مخرجات التعليم العالي، فالجامعات مهما اجتهدت في تحسين خططها وإستراتيجياتها التعليمية لن تستطيع أن (تُصلح ما أفسده الدهر)، فالممارسات العملية تخبرنا أنه من الصعب على الجامعة استئصال العادات الخاطئة في التعلّم والتي تشربها بعض الطلبة خلال مراحل التعليم العام. وهذا يعني أن إصلاح العملية التعليمية على مستوى التعليم العام سيسهم بشكل كبير في اختفاء الكثير من مشكلات جودة مخرجات التعليم الجامعي.
كلية التربية - جامعة الملك سعود
http://faculty.ksu.edu.sa/DrBinHussein