تعيش أمتنا الإسلامية منهية شهر رمضان المبارك، آملة أن تكون رحمة الله قد شملتها، ومغفرته قد أُسبغت عليها، والعتق من النار كان من نصيبها، على أن كاتب هذه السطور - وهو في اليوم التالي ليوم عيد الفطر - يخطر بباله مطلع قصيدة أبي الطيب الاستفهامي:
|
عِيد بأية حال عدت يا عِيد
|
بما مضى أم لأمر فيك تجديد؟
|
ذلك أن أوضاع أمتنا من جميع جوانبها أوضاع كارثية مع الأسف الشديد، ومأساتها تزداد رسوخاً عاماً بعد عام، بل يوماً بعد آخر.
|
ولقد تيسَّر لي في شهر رمضان أن أعود إلى قراءة شيء مما سبق أن كتبته في سنوات متتالية، محاولاً جمعه لإخراجه بين دفتي كتاب. وكان مما عدت إلى قراءته مقالة كتبتها قبل تسع سنوات عن كتاب عنوانه (الجيش السعودي في فلسطين). وفي تلك المقالة أوردت أبياتاً من قصائد لشعراء سعوديين كانوا يدرسون في القاهرة تتناول قضية فلسطين بعد نكبة عام 1948م، وكان من أجمل تلك القصائد، سبكاً وشاعرية ومعنى، قصيدة للأستاذ محمد بن عبدالرحمن الفريح، الذي كان حينذاك على وشك التخرج من كلية الآداب، وعنوانها (تحية للمجاهدين)، ومطلعها:
|
الأرض سكرى والخلائق نُوَّمَ |
والشر يفتك بالبلاد ويظلمُ |
|
تقضي العدالة للجميع وتحكم
|
ثم بعد ذلك أتى ذكر ما آلت إليه الأمور موضحاً بهذه الأبيات:
|
عاث العدو بأرضنا فتمزّقت |
والموت ظل على النفوس يحوِّم |
سلِمت فلسطين العزيزة عنوة |
خسفا يجلُّ عن الحِمام ويعظم |
راجت بها سوق الحياة فأصبحت |
عَرضاً وصار الحق فيها الدرهم |
هل تغير شيء بعد ستين عاماً على تلك النكبة بالنسبة لما تضمنته الأبيات السابقة، وبخاصة الأخير منها؟ أليس يوجد الآن من زعماء فلسطين أنفسهم من يبيعون الأسمنت للأعداء الصهاينة كي يبنوا جدار الفصل العنصري؟ ألا يوجد من أولئك الزعماء، الذين سمّاهم بوش الابن قادة المستقبل، من يتعاونون تعاوناً تاماً مع جهاز الاستخبارات الصهيوني (الموساد) للنيل من المخلصين الفلسطينيين، وبالتالي لبيع وطنهم وكرامته؟
|
ومن تلك القصيدة الرائعة، التي خطّتها يد أبي عبدالرحمن -لا شُلَّت- رصداً لمجريات سير قضية فلسطين قوله:
|
بالأمس قالوا: فلنقسِّمها كما |
تقضي العدالة للجميع وتحكم |
فاهتاجت العرب الكرام وهالهم |
وطن عزيز في الحياة يُقسَّم |
فتقدَّموا لا شيء يثني عزمهم |
وهل العقيدة - إن أرادت - تُهزم؟ |
حتى إذا بلغ الجهاد أشدَّه |
والحرب كادت للعدو تُحطِّم |
قالوا: السلام وهددوا في نقضه |
والمرء - إن عزَّ الدفاع - يُسلِّم |
ذلك التشخيص الرائع الذي أوضحه أبو عبدالرحمن قبل عقود وعقود مازال هو الذي يمكن أن يشخصه المدرك لما يجري من أحداث الواقع الآن، بل إن منه ما ينطبق على ما حدث عام 1973م، وذلك عندما ضرب المقاتل العربي على الجبهتين المصرية والسورية أمثلة من البطولة والإقدام، ثم آل بالأمور من آل بها حتى انقلبت بشائر النصر إلى سدول هزيمة وذل.
|
وتابع أبو عبدالرحمن - سلمت يمينه - تشخيصه لمأساة قضية فلسطين قائلاً:
|
ليس السلام وإنما هي خدعة |
حِيكت حبائلها وفاز المُحِكم |
ثم انثنينا والتفرُّق سائد |
والبعض في حق البقية يجرم |
فتكشَّفت - بعد الجهاد - مَقاصدٌ |
فيها فلسطين الشهيدة مغنم |
وإذا كان تشخيص أبي عبدالرحمن لواقع مسار القضية الفلسطينية صحيحاً عندما كتب ذلك التشخيص في قصيدته فإن انطباقه على سير تلك القضية مازال صحيحا. غير أن الأمور ازدادت سوءاً، وذلك أن فلسطين كلها أصبحت تحت الاحتلال الصهيوني بعد حرب 1967م. أما استعمال كلمة (الجهاد)، التي وردت في القصيدة فاستعمال صائب. وكان هو السائد حينذاك، كما ورد في قصيدة الشاعر علي محمود طه المشهورة، التي مطلعها:
|
أخي جاوز الظالمون المدى |
فَحُقَّ الجهاد وحُقَّ الفدا |
وظل استعمال تلك الكلمة، التي وصفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنها ذروة سنام الإسلام سائداً، ثم ازداد انتشاراً بمباركة من أمريكا بخاصة والغرب بعامة عندما قامت فئات من الشعب الأفغاني بمقاومة للوجود السوفييتي في أفغانستان. أما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وغياب المعسكر، الذي كان يتزعمه، فأصبحت كلمة الجهاد مُحاربة، وراحت بلدان إسلامية معينة - بإيحاء من ذوي الهيمنة عالمياً - تزيلها من كتب المقررات الدراسية، ولا تسمح باستعمالها في خطب الجمعة. وإن سُمح باستعمالها فيجب أن يكون للتدليل على أمر آخر مهم في حد ذاته، لكنه لا يدل على مقاومة للأعداء المحتلين لبلاد العرب والمسلمين.
|
وتابع أبو عبدالرحمن تشخيصه الموفَّق لوضع قضية فلسطين وما يحيط بها قائلاً:
|
واليوم نحن بما أبينا نرتضي |
ونلحُّ في طلب النصيب فَنُحرم |
طال التوسُّل في الحقوق لعصبة |
عن مسلك الحق المبيَّن قد عَمُوا |
إنا لنجأر بالشكاة ونرتجي |
حقاً تملَّكه العدو المجرم |
والكل يعلم أن من نشكو له |
كان العدو فكيف يهدي المظلم |
إن لم يكن للحق ما يحمى به |
فالموت أولى بالنفوس وأكرم |
سلم أبو عبدالرحمن، وسلمت بقية ذلك الجيل الواعي المدرك لأبعاد قضايا أمته العربية. وما كان بوحه إلا تعبيراً عن المشاعر النبيلة في ذلك الأمس واستجلاء لحوادث تزداد أبعادها سوءاً، فتزيد نفوس كل مخلص ومخلصة لأمتنا ألماً وحسرة.
|
وإذا كان أبو عبدالرحمن ممن لهم الريادة في كشف أبعاد وضع أمتنا، لاسيما ما يتعلَّق بقضية فلسطين، وفي استجلاء مستقبلها المظلم فإن كاتب هذه السطور لم يبتعد، أو يخرج، عن نطاق ما أوضحه من سبقوه. فلقد أوضحت في قصيدة كتبتها عام 1968 بعنوان (الحل السليم) أن قرارات الأمم المتحدة لم تفد ولن تفيد، وأن الحل السليم لن يأتي إلا بمقاومة المحتل. ثم بينت في قصائد أخرى، ابتداء من عام 1973م، إننا لذلِّنا أصبحنا نبحث عن حلٍّ يُقدِّمه إلينا أعداؤنا، أو نتوسل إلى مجلس الأمن بحثاً عن حلّ، إلى أن أصبحنا نتوسل إلى المتصهينين ليقدِّموا لنا الحلّ. ففي عام 1973م قلت من قصيدة:
|
وعدت أبحث عن حل يُقدِّمه |
من صبّ فوقي من ويلاته ضَرَما |
وقلت من قصيدة عن مذابح البوسنة والهرسك مبينا موقف زعاماتٍ من أمتنا:
|
لمجلس الأمن قد مَدُّوا أكفَّهمُ |
ساء المؤمِّل والمأمول منقلبا |
هل يفرض المجلس الدولي سلطته |
إلا إذا استهدِف الإسلام والعربا؟ |
وقلت من قصيدة أخرى: |
غدت فلسطين أشلاء مُمزَّقة |
وحلَّ في أهلها فتك وتشريد |
والقدس غيَّر محتلٌ هويَّتها |
وانتابها من يد الأوباش تهديد |
والسادرون من الحكام ديدنهم |
في كل نازلة شجبٌ وتنديد |
هاموا وراء سراب السِّلم زادُهمُ |
من عَمِّهم سامْ توجيه وتَعميد |
وطاعة السيّد الجبار واجبة |
لها بشرع سكارى الذُّل تأكيد |
ومقتضى الطاعة العمياء مظهرها |
من الأذلاء تسبيحٌ وتحميد |
باعوا المواطن كي تبقى مناصبهم |
يحيطها من رضا الأسياد تأييد |
اللهم يا مالك الملك ألهم أمتنا، قادة وشعوباً، رشدها، وقوّ عزائمها لتنتصرعلى أعدائها الذين لا يريدون لها إلا الذُّل والصغار، إنك سميع الدعاء.
|
|