لا يختلف اثنان أن شريعة الإسلام أباحت الاجتهاد في القضايا الجديدة التي لا نص فيها قطعي الدلالة. ورغم هذه السعة، وتعدد الآراء والاجتهادات الفقهية إلا أن علماء الأصول (تنبهوا) إلى أن مثل هذه المرونة الإيجابية في المسائل الاجتهادية قد تنقلب إلى سببٍ سلبي، يُميّع الشريعة، ويجعلها كوسيلة من وسائل الانضباط الاجتماعي هزيلة الفاعلية؛ الأمر الذي قد يجعل من (الاجتهاد) وسيلة للتملص من التكليف، وبالتالي تنحل روابط (العقد الاجتماعي)، فتعم الفوضى، ويُصبح خرق الأنظمة والقوانين مشروعاً بحكم أحقية بعض - الفقهاء مثلاً - في الاجتهاد.
لذلك أكد علماء الأصول (بحزم) أن اختيار الحاكم في المسائل الخلافية يرفع الخلاف، شريطة ألا يُناقض حكمه نصاً ثابتاً واضح الدلالة، أو إجماعاً لا خلاف حوله؛ ليُصبح هذا الاختيار - أي اختيار ولي الأمر صاحب البيعة - مُلزماً للجميع الفقهاء وغيرهم.
كما أعطى علماء الأصول لولي الأمر (دون غيره) صلاحية تقييد المباح، متى ما وجد أن تقييد هذا المباح فيه مصلحة عامة تنعكس إيجابياً على تحقيق مقاصد الشريعة.
كل هذه الصلاحيات حسب الشريعة هي حصراً في يد ولي الأمر صاحب البيعة، ولم يذكر في كل المراجع الفقهية المعتمدة عند أهل السنة أن (الفقيه)، أو عالماً من العلماء، أو ممن يضطلعون بالإفتاء في الدول الإسلامية السالفة، مُنحَ هذه (الولاية) إطلاقاً، كما هو العمل في (الكهنوتية) الإيرانية مثلاً.
صحيح أن الفقيه يبقى مستشاراً يُسأل، ويسترشد برأيه، استناداً لقوله جل وعلا: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)؛غير أن الفقيه لا يملك (حق) القرار، أو الاختيار، أو حتى الاعتراض متى ما بَتّ ولي الأمر في المسائل الاجتهادية؛ وهذا ما عرفه تاريخ الإسلام منذ أبي بكر - رضي الله عنه - وحتى اليوم.
الإخوان المسلمون، ومن يدور في فلكهم، ويأتمر بأمرهم، أو خرج من تحت عباءتهم، وتلوث بثقافتهم، هم أول من جعلوا (البيعة) - آلية الطاعة - تنتقل من ولي الأمر صاحب البيعة إلى (مرشد عام) الجماعة؛ كذلك أشركوا في مدلول آية طاعة ولاة الأمر (العلماء والفقهاء)، وجعلوهم في درجة (الأمراء) مستندين إلى رأي ضعيف، وغير مبرر تاريخياً، قال بمثل هذه القول؛ فآلية الطاعة في الإسلام هي (البيعة) حسب الحديث: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه (بيعة) مات ميتة جاهلية)؛ ولم يعرف تاريخ أهل السنة (إطلاقاً) - وأكرر (إطلاقاً) - أن عالماً أو فقيهاً أو مفتياً، طالب أتباعه بأداء (البيعة) له، الأمر الذي جعل مساواة الفقيه بالأمير في (الطاعة) أمراً جديداً ومحدثاً و(خطيراً) بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حتى ابتلينا بالحركات (الإسلاموية) السياسية، أو من ردّد أقوالهم من بعض البسطاء والسطحيين والسذج من غير الحركيين.
لهذا فإن كتابات بعضهم ممن لا يدركون مسؤولية تخريجاتهم وما يكتبون قد تمس نظرية (طاعة ولي الأمر) عند أهل السنة والجماعة، عندما انتزعوا بعض صلاحيات ولي الأمر صاحب (البيعة) وأعطوها للفقيه أو للعلماء؛ وكل ما أرجوه أن يكون هذا التخريج عن جهل، أو غباء، أو غفلة، وليس لأمر دُبّرَ بليل.
إلى اللقاء.