كعادة بعض أهلنا ممن لا يزالون يتلقون ثقافتهم وأفكارهم من زمن مختلف عن زمننا، وظروف لا تتشابه على الإطلاق مع ظروفنا، رفعوا أصواتهم عالية محذرة مخوفة مرهبة من التغريب والاختلاط ونقل جوانب من الحضارة الغربية والثقافات الأخرى، وذوبان الشخصية العربية والإسلامية
من خلال برامج وأنشطة وأبحاث وتخصصات هذه الجامعة العصرية العلمية الفريدة؟!
دائماً لبعض أهلنا صيحات وفزعات لمواجهة كل جديد، وكأن الزمن ما زال يكرر نفسه؛ مع كل جديد حادث في زمان الناس هذا - كما كان يُعّرف ما لا يعرف كنهه؛ من وسائل الاتصال كالبرقيات والتلغراف والراديو والتلفزيون، والآن السينما (وقد تجاوزها العالم منذ أكثر من قرن) والمسرح، وتعليم المرأة وعملها، ولباس الشرطة، والتعليم النظامي الحديث، وتدريس مواد مثل: الرياضة، والجغرافيا (تقويم البلدان!) واللغات، وغيرها؛ ترى لو أن الدولة توقفت واستجابت لمن دوت صيحاتهم واخترقت عنان السماء كيف يمكن أن نكون الآن؟!
لو لم تقدم الدولة على استقدام الخبراء الأجانب للتنقيب عن البترول فمن سيكتشفه؟ رعاة الإبل أم قناصو البراري؟! لو لم تقدم الدولة على تحديث التعليم في المراحل التاريخية المبكرة من نشأة الدولة السعودية الثالثة مطلع الخمسينيات الهجرية من القرن الماضي ولو لم تبتعث من كانت تحتاج إليه من أبنائها كيف يمكن أن تدار أجهزة الدولة؟
لو لم تقدم الدولة بكل الجسارة والشجاعة على مقاومة فكر الانغلاق وفوبيا المخاوف من الجديد على فتح مدارس تعليم البنات مطلع الثمانينات من القرن الهجري الماضي كيف يمكن أن تكون عليه حال المرأة السعودية؟! لو استجابت الدولة لمن حشدوا الحشود ورفعوا أصواتهم ضد التلفزيون في بداية افتتاحه منتصف الثمانينات من القرن الهجري الماضي كيف سنواجه ثورة العصر الاتصالية الآن عن طريق الأقمار، وما هو القدر الذي كنا سنخسره تثقيفياً وتنويراً ومزامنة إخبارية لما يجد؟!
مع كل جديد طارئ حادث لابد أن ترتفع أصوات لا تعيش إلا زمنها محتجة خائفة قلقة؟! وإلى وقت قريب لم ننس الوفود والكتابات في قضية دمج الإشراف على تعليم البنات بالبنين، والتهويل والمبالغات التي لم تكن معقولة أبداً.
وهي هي الصيحات المألوفة تعاود أساليبها القديمة المألوفة مع كل حادث جديد في زمان الناس هذا!
جامعة علمية عالمية تقنية تفتح لهذا الوطن وأبنائه، وللنابهين من أمتنا آفاق المستقبل، جامعة تستقدم أفضل العقول العالمية، وأقوى القدرات والخبرات، تستخلص زبدة تجارب الدول المتقدمة، وعصارة ما وصلت إليه من تقدم بحثي وعلمي في مجالات الحياة التطبيقية التي نحتاج إليها ونتطلع إلى أن يضيف أبناؤنا إلى العقل البشري العالمي المتفوق شيئاً ما؛ إن أمتنا لم تعقم ولم تتوقف عن ولادة المبدعين الخلاقين الموهوبين؛ ولكنهم يحتاجون إلى بيئة تحتضنهم، وأيد حانية ترعاهم؛ وهم إما أن يرحلوا إلى من يحتضنهم في مراكز الغرب العلمية، أو أن يصابوا بالإحباط ويذوبوا في مجتمع لم يأبه بقدراتهم.
لقد تنبه الملك عبدالله بن عبدالعزيز برؤيته الحضارية الثاقبة، وبعد نظره وتجربته الإدارية والقيادية الطويلة وسعة اطلاعه وعمق وعيه إلى أن أساس نهضة الشعوب هو الاهتمام بالنابهين، وأحس إحساساً عميقاً بأن توطين العلم والخبرة واستقدامها أنجع وأبقى وأكثر استقراراً وفائدة من طرق أخرى مختلفة لتلقي الخبرة والاستفادة من المعارف، ولذا سعى منذ تولى - حفظه الله - زمام الأمور في هذا الوطن خلال فترة وجيزة لا تزيد على أربع سنين إلى استكمال النقص في العلم بكل جوانبه من خلال طريقين؛ الأول: البعثات، وقد رصد مشروعه الموفق أن يستكمل بعث مائة ألف طالب إلى أفضل جامعات العالم؛ لسد النقص في تخصصات علمية تطبيقية كثيرة، وبعض العلوم النظرية. والطريق الثاني الذي يفوق الأسلوب الأول بحسنات كثيرة: توطين العلم، من خلال إنشاء الجامعات العلمية المتخصصة العالية التي يستقطب لها أفضل الكوادر، وتكون لها البيئة التعليمية والاجتماعية والترفيهية المناسبة.
إن هذا المشروع الحضاري العظيم الذي يقوده الملك عبدالله يدخل المملكة إلى عصر جديد؛ هو عصر التقنية والحداثة. وهو اختصار لسنين طويلة مر بها التعليم في المملكة في منطقة ركود ومراوحة، بحيث أصبح يكرر نفسه، ويخرج أجيالاً لا تلبي حاجة الوطن في النهضة والتقدم. والمعول أن يسد هذا المشروع العلمي الحضاري حاجة البلاد من الكوادر التقنية العلمية بعد أن تستقر الجامعة وتبدأ خلال السنوات الخمس القادمة وما بعدها في تخريج باحثيها ودارسيها في المرحلتين العاليتين الماجستير والدكتوراه.
لقد أدرك الملك عبدالله منذ زمن مبكر أهمية مسألة التنوير والعلم؛ فرعي الحركة الثقافية والعلمية، وأسس منطلقات الحوار، ودعم الباحثين، وتطلع إلى أن تنتقل المملكة من مصاف الدول التي تمد يدها لسد حاجتها من الغير إلى المرحلة المقبلة التي يعتمد فيها هذا الوطن على أبنائه الموهوبين، مع الاستعانة بالخبرات العلمية العالمية في كافة المجالات.
إن سعي الملك إلى تحديث هذا الوطن، وإدخاله عنوة إلى العصر واختصار الفواصل الزمنية بيننا والعالم، والإفادة من ثمرات العقل الإنساني، وتقريب الثقافات الحضارية من بعضها، وكسر التابو الذي يعشش على بعض العقول المتخوفة القلقة، والخروج من حصار الخطاب الانعزالي المنغلق الذي فرض صوته وهيمنته على الوطن في السنوات الثلاثين الماضية، مما أنتج جيلاً لا يعرف إلا ذاته، ولا يتقبل إلا نفسه، ولا يرى من هو أحق أو أصلح أو أقدر أو أوعى منه، جيل كان يعتقد أنه يستطيع أن يدير العالم من عزلته في الكهوف والخلوات وأن يخضعه لما يعتقد بالغزوات وبيانات التهديد والترهيب والوعيد.
آمن الملك عبدالله بالأخيار لنا كي ننهض عبر الانفتاح على حضارات العالم، والإفادة من خلاصة تجاربهم، واستقطاب أفضل عقولهم، أو بعث أبنائنا إلى أفضل جامعاتهم، آمن بأن بالعزلة العلمية والثقافية والحضارية ستنشئ مفاهيم مغلوطة عن العالم، وتكون عقليات وأفكاراً مشوشة وغير ناضجة، ولذا كانت هذه الخطوات الانفتاحية المتأنية المدروسة العقلانية التي توازن بين خصوصية المجتمع السعودي ومنطلقاته العقدية وتقاليده وما ينعم به العالم المتقدم من ثمار التفوق العقلي، من طب، وهندسة، وزراعة، وفضاء، واتصالات، ومواصلات، وأغذية وغيرها.
كان الأولى ببعض الأصوات النشاز التي لا تعيش إلا زمنها أن تدعو للملك في اتجاهه الموفق هذا إلى التحديث والتحضر والتطوير بالعون والتوفيق، لا أن تثير الشكوك والمخاوف، وتضع نقاطاً على حروف مرتبكة غير واثقة!
كان الأولى رفع برقيات الشكر والثناء والتشجيع، لا رفع الصوت النشاز بتضخيم ما لم يوجد، وبتصوير ما لم يقع إلا في الخيال.
ثم لنفترض جدلاً، ولنرد على من رفع صوته محتجاً بدعوى (الاختلاط): هل نستطيع الحجر على المرأة في بيتها بحيث لا تذهب إلى سوق ولا إلى مشفى، ولا إلى حج، ولا إلى زيارة، ولا إلى متنزهات، ولا إلى سفر ما، بحجة أن كل الأماكن السابقة مختلطة؟! هل يريد أن تُنشأ مملكة خاصة للنساء؟! أو أسواق خاصة، أو مشاف خاصة، أو طائرات أو حافلات أو قطارات خاصة؟!
إن هذه الجامعة لرجال ونساء بلغوا من العلم والخبرة والإدارة مبلغاً كبيراً، وطلبتها وطالباتها يدرسون دراسات عليا، وقد تجاوزوا السن الصغيرة القلقة، ولا يحسن بنا أن نضع الشك أولاً، أو أن نفترض ما لم يقع، والعزلة الحادة الخطيرة للمرأة على النحو الذي يريده البعض هي التي تخلق إشكالات وتصنع خيالات عن المرأة تخترق الحجب والحواجز، بينما تتمتع المرأة في كثير من البيئات العربية بممارسة حياتها الطبيعية في حشمة واتزان ووفق أنظمة وقوانين تضبط الحياة العامة.
إن تجربة أرامكو التي أوكل إليها للتخطيط والإشراف من أنجح التجارب في خلق بيئة عمل ممتازة ومتفوقة، وفي تكوين حياة سكنية وتعليمية واجتماعية في محيط الشركة السكني رائعة ومتوازنة ومنضبطة بالقيم الدينية والقوانين العامة، وإن من المؤمل أن تكون هذه البيئات الحضارية سواء في أرامكو أو في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية أو ما يماثلها نموذجاً مصغراً لتقديم السلوك الحضاري المنضبط بقيم المجتمع الإسلامي والأخذ برؤى تحديثية والمتخفف من هيمنة بعض التقاليد الاجتماعية السيئة.
وإنني على ثقة كبيرة بأن هذه الجامعة الفريدة ليست هي آخر أحلام الملك عبدالله، فمشروع الملك الحضاري لتحديث الوطن لا ينتهي عند هذا الحد، فمن خلال نجاح هذه الجامعة المؤكد بإذن الله ستكون لدينا مثلها جامعات أخرى في تخصصات مختلفة، وسيكون لدينا شبكة قطارات تضاهي أرقى دول العالم، وسيكون لدينا قريباً -إن شاء الله- في مدننا الكبرى مترو يخترق المدينة من أقصاها إلى أقصاها، وستكون لدينا جوائز للمتفوقين في كل المجالات، وسيكون لدينا إعلام متطور منفتح متعدد، وستكون لدينا مدن سكنية جديدة تخفف من أزمة السكن الحادة.
ليست هذه الجامعة الفريدة إلا حلقة واحدة في منظومة التحديث الحضارية الهائلة التي يقودها المصلح الكبير والمؤسس للدولة السعودية الحديثة الملك عبدالله بن عبدالعزيز.
أما الأصوات النشاز العاقة التي لا تعيش إلا زمنها المغلق فعليها أن تنكفئ إلى ذاتها، فقد احترقت أوراق السنوات الثلاثين الضائعة من عمر أجيال هذا الوطن، ويكفي يكفي الأجيال القادمة ضياعاً وتشتيتاً واستقطاباً وتحريضاً ودفعاً إلى المهالك والمحارق. نحن لم نعد في حاجة إلى أن نكرر ما مضى أو أن نبقى في بقايا ذلك الزمن الضائع المجاني، فقد قدمت ما سمي بالصحوة نفراً كبيراً من شبابنا حطباً ووقوداً لفتن مشتعلة ضارمة في الداخل والخارج. وعلى من لا زال يؤمن بأن الفرصة لا زالت سانحة لتكرار تلك التجربة أو العيش فيها أن يلملم أحلامه، فزمن الصحوة الحضارية على الواقع وعلى العالم قد آن، وزمن الصحوة الوهمية قد ولى.
إن دواء الأوهام المريضة الوحيد يكمن في غرس جامعة على هذا النحو في جهات هذا الوطن الأربع، وهذا ما ليس ببعيد -بإذن الله- على مؤسس الدولة السعودية الحديثة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، فلندعو له بطول العمر، وبدوام الصحة، ليقود هذا الوطن إلى أحلامه وأحلامنا الكبيرة.
* عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام - كلية اللغة العربية
Ksa-7007@hotmail.com