أعلن خادم الحرمين الشريفين في خطابه الذي ألقاه في قمة العشرين التي انعقدت في واشنطن العام الماضي عن رصد المملكة مبلغ (400) مليار دولار حتى العام (2013م)، يتم استثمارها داخل المملكة في البنى التحتية وقطاع النفط والطاقة ومشروعات الخدمات الأساسية بهدف تعزيز الطاقة الاستيعابية، خلال السنوات الخمس القادمة, وللمساعدة في إنقاذ اقتصاد المنطقة ودفعه إلى الوقوف في وجه الأزمة المالية العالمية.
وقال خادم الحرمين في خطابه: إن منطقتنا ليست بعيدة عن التأثر بهذه الأزمة.. وبدورنا سنستمر باتخاذ السياسات الاقتصادية الضرورية ليواصل اقتصادنا النمو، وللعمل على ضمان ذلك، سنواصل تنفيذ برنامج الاستثمار الحكومي بالإنفاق على المشروعات والخدمات الأساسية، وتعزيز الطاقة الاستيعابية. حيث نتوقع أن يتجاوز برنامج الاستثمار للقطاعين الحكومي والنفطي 400 مليار دولار خلال الخمس سنوات القادمة.
وأضاف قائلاً: كما أننا مستمرون في التنسيق مع الدول العربية فيما ينبغي عمله لضمان تخفيف الآثار السلبية لهذه الأزمة على منطقتنا. كما سنستمر في القيام بدورنا في ضمان استقرار السوق البترولية، وفي مساعدة الدول النامية بالتعاون مع المجتمع الدولي، لضمان عودة الانتعاش والنمو للاقتصاد العالمي. وقال: إن السعودية تدرك الدور المحوري والمهم الذي تؤديه في الاقتصاد العالمي، ومن ذلك العمل على استقرار سوق البترول الدولية، لذلك فإن سياسة الرياض النفطية قامت على أسس متوازنة، تأخذ في الاعتبار مصالح الدول المنتجة والمستهلكة.
ولإلقاء المزيد من الضوء على هذا الخطاب الشامل, ولمعرفة الأسباب الكامنة وراء تعهد المملكة برصد مبلغ (400) مليار دولار لتنفيذ برنامج الاستثمار الحكومي على المشروعات والخدمات الأساسية، وتعزيز الطاقة الاستيعابية. وما أثر ذلك في الاقتصاد المحلي والعالمي. أوضح رئيس مركز تنمية الصادرات السعودية الدكتور عبد الرحمن الزامل ل(الجزيرة) أن هذا القرار يعتبر من أهم القرارات التي صدرت من خادم الحرمين الشريفين وأهم التزام مع مجموعة العشرين, لأنه أكد تعاون المملكة مع العالم في إنقاذ الاقتصاد العالمي، من خلال صرف حوالي (400) مليار دولار في خمس سنوات وعلى مشروعات داخل المملكة.
وأضاف أن هذا القرار الحكيم أبعد اقتصادنا عن أضرار الأزمة العالمية, فاقتصادنا الآن يتصف بأنه متحرك ويتوسع باستمرار ولا يتأثر بالأزمة كالآخرين.
وبيّن د. الزامل أنه تم حتى الآن ترسية عقود بقيمة (140) مليار دولار كان حصة المشروعات غير النفطية ما قيمته (110) مليارات دولار، وقد انعكس هذا الصرف إيجابا بدرجة كبيرة على كل قطاعاتنا الاقتصادية وزاد من وتيرة نشاطها.
واستطرد الدكتور الزامل أنه لأجل تحقيق الأغراض التي من أجلها أقَرّ خادم الحرمين الشريفين خطة الإنفاق هذه فلابد من العمل على تحقيق نقطتين رئيسيتين:
النقطة الأولى: كل المشروعات العملاقة التي ما زالت تحت التنفيذ, مثل مشروعات ارامكو ومشروعات بناء الجامعات كجامعة الملك عبد الله وجامعة الأميرة نورة وكذلك المباني المدرسية وغيرها يجب أن يتم تطبيق الأوامر الملكية عليها التي تنص على استخدام المنتجات المحلية بدلا عن المنتجات المستوردة في تنفيذ هذه المشروعات, فبالتالي من الضروري إعطاء هذا الجانب الأولية القصوى وترجمته على ارض الواقع.
وهو ما سيجعل المصانع المحلية تتوسع باستمرار ما يولد فرص العمل للشباب السعودي, إضافة إلى أنه يبعث برسالة واضحة للمستثمر الأجنبي المصدر لبلدنا بأن فرصته حتى يدخل أسواقنا تكون فقط عبر إقامته للمصانع في المملكة حتى يحصل على جزء من المشروعات المحلية. وأضاف أن هذه الإجراءات يتم تطبيقها في كبرى الدول الجاذبة للاستثمار كالولايات المتحدة الأمريكية والصين والهند, حيث من الصعب أن يدخل أي منتج من الخارج إذا كان هناك منتج محلي بديل. واستطرد الدكتور الزامل قائلا إنه لمن المؤسف أن هذه القرارات لا يتم تطبيقها بحذافيرها داخل المملكة حتى الآن, حيث ما زالت هذه المشروعات الاستثمارية تعتمد على تأمين أغلب مستلزماتها من خلال الاستيراد من الأسواق الخارجية, على الرغم من أن مصانع المملكة تنتج المنتجات الصناعية الكفيلة بتأمين أغلب احتياجات هذه المشروعات المحلية. وبين أنه إذا لم يتم معالجة هذه المشكلة فإن ذلك سينعكس سلبا على تطور الصناعة المحلية وعلى القدرة على إحلال المنتج المحلي كبديل عن المنتج المستورد
أما النقطة الثانية: فهي تكمن في إعطاء المقاولين المحليين الأولوية في تنفيذ المشروعات المقررة سواء عبر عقود مباشرة أو غير مباشرة, ما يحقق نفعاً كبيراً ينعكس إيجابا على نمو الشركات الصغيرة والمتوسطة. مضيفا أن هناك تقصير في تطبيق هذه النقطة حتى الآن. وهذا ما انعكس سلبا على تطوير ودعم المقاولين المحليين القادرين على تنفيذ المشروعات التي تسهم في بناء اقتصادنا, وكذلك على توفير فرص العمل للشباب السعودي. وأضاف أنه لأجل تحقيق تطلعات المملكة بتعزيز مركزها المهم على الخريطة الاقتصادية العالمية فإنه يجب العمل على تنفيذ هاتين النقطتين, حيث لو تم تطبيقهما لتوسعت صناعاتنا وطاقاتنا الإنتاجية بشكل مطرد ما يزيد من الفرص الوظيفية ويخفض من تكلفة الإنتاج، وهذا الأثر سينتقل من مصنع إلى مصنع ما يعطي هذه الصناعات فرصة كبيرة للمنافسة الخارجية ويرفع من صادرات المملكة ويدعمها في دخول الأسواق العالمية, خصوصا ونحن نعيش أزمة مالية عالمية أضرت بدول كثيرة ما يعطي المملكة فرصة نادرة لترسيخ مكانتها الاقتصادية عالميا يدعمها في ذلك عدم تأثرها الكبير بهذه الأزمة كما حدث لدول كثيرة. فالمملكة اليوم تعتبر الدولة العربية الأولى صناعيا. وإذا ما استفدنا من هذا الإنفاق الاستثماري الذي تعهد به خادم الحرمين الشريفين بالشكل الصحيح فإننا سنكون بعد سنوات قليلة ضمن مصافي الدول الرائدة اقتصاديا. لأنه باستثمار مثل هذه الفرص النادرة يتم بناء الأمم المتقدمة والناجحة.
وتوجهنا بنفس السؤال لعضو مجلس الشورى د. زين العابدين بري الذي قال: أحب أن أوضح بدايةً أن المملكة حافظت خلال الميزانيات الثلاث الماضية, وعلى وجه الخصوص الميزانية الجارية على نفس الوتيرة المتزايدة من الإنفاق الحكومي. وقد أوضحت الميزانية الحالية للدولة عجزا بمقدار 65 مليار ريال تم تسديدها من الاحتياطي العام الذي بلغ ذروته في العام المالي 2008 - 2009م. حيث بلغ الاحتياطي العام للدولة تريليون وستمائة وخمسون مليار ريال سعودي (1,650) مليار ريال. وأضاف د. بري أنه من المعلوم أن هذا الاحتياطي تكون نتيجة للزيادة المطردة في أسعار البترول حيث وصل سعر البرميل إلى ما يقارب (148) دولار للبرميل في العام (2008), وقد كانت الميزانيات السابقة تبرمج على أساس معدل الإنتاج الحالي وبسعر (45) دولارا للبرميل, الأمر الذي حقق فوائض مالية متتالية أضيفت إلى الاحتياطات المالية للدولة. وهذه الاحتياطات قامت بدعم الميزانية العامة للدولة عند حجم الإنفاق الحالي الذي يزيد على (500) مليار ريال, وعند نفس المستوى من إنتاج البترول, وعلى سعر (45) دولارا للبرميل الواحد, فيما لو رغبنا في الاستمرار في الإنفاق على نفس الوتيرة ولمدة عشر سنوات قادمة.
وعند سؤاله لماذا تستمر الدولة في الإنفاق وعلى نفس الوتيرة حتى مع انخفاض إيراداتها, مما يضطرها بالضرورة إلى اللجوء إلى الاحتياطي العام, ولماذا لا تعمل بميزانية متواضعة تتماشى مع إيراداتها المالية خصوصا أن الاقتصاد العالمي في حالة ركود ولم تتضح المعالم بعد؟.
قال د. بري: إن الإجابة واضحة حيث إن الاقتصاد العالمي يحتاج إلى كميات كبيرة من السيولة. فحتى يتحرك الاقتصاد العالمي لابد من ضخ كميات كبيرة من الأموال حتى يزيد الطلب وهذا دور يجب أن تقوم به جميع الحكومات في هذه الأزمة, خصوصا ان البنوك قد أحجمت عن الإقراض إما نتيجة للإفلاس أو للتحوط.
وهكذا تعهدت معظم الحكومات بزيادة الإنفاق ومنها المملكة التي تعهدت بزيادة إنفاقها بمقدار 400 مليار دولار (أي ما يعادل 1,500 مليار ريال سعودي) على مدى الخمس سنوات القادمة. وقرار المملكة هذا كان مدفوعا بعاملين: الأول هو شدة الطلب على الإنفاق الحكومي في الداخل. حيث إن الحكومة تتحمل تقديم كل الخدمات التي يحتاج إليها المواطن في الداخل مثل التعليم والصحة وشق وصيانة الطرق إضافة إلى نظافة المدن وتأمين الكهرباء والماء بتعرفة منخفضة جدا والعديد من السلع والخدمات الأخرى التي يأتي على رأسها الأمن والدفاع. وهذه الخدمات يزداد عليها الطلب يوما بعد يوم مع توسع المدن وزيادة عدد السكان والتطور في نمط الحياة.
العامل الثاني أن المملكة جزء من الاقتصاد العالمي. فالاقتصاديات الحديثة منفتحة على بعضها البعض، من خلال التجارة الخارجية ومن خلال الاستثمارات وتتأثر وتؤثر في بعضها البعض. ولا شك أن زيادة الإنفاق العام في المملكة وزيادة السيولة والطلب سيكون له تأثير إيجابي على العالم الخارجي على الأقل من خلال التجارة الخارجية. وبسؤال (عضو جمعية الاقتصاد السعودية الأستاذ مح مد العمران) عن الأسباب الكامنة وراء تعهد الملك برصد 400 مليار للسنوات الخمس القادمة بغض النظر عن تطورات الأزمة المالية العالمية والتوسع في الإنفاق الحكومي برغم الأزمة والاستمرار في مشروعات التنمية, وما انعكاس ذلك على أسواق المال وقطاع الاستثمار والقطاع المصرفي؟
قال العمران: إن الأسباب تتمثل في التزام المملكة بسياسات مالية توسعية أسوة بقرارات دول مجموعة العشرين بهدف مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية والتقليل من أثارها إلى ادني مستوى ممكن. يدعمنا في ذلك الاحتياطات الكبيرة التي كونتها المملكة خلال السنوات الماضية التي تكفي لتغطية الإنفاق الحكومي لأربع سنوات تقريبا, دون النظر إلى أية عوامل أخرى. وهذا بالتأكيد دليل قوي على قوة ومتانة الاقتصاد السعودي بقيادة وتوجيه من لدن والدنا وقائدتا خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله ورعاه -. وأوضح العمران أن التزام المملكة في انتهاج هذه السياسات المالية التوسعية كان وسيكون له انعكاسات إيجابية على الاقتصاد السعودي خلال الخمس سنوات القادمة, من خلال مواصلة نمو الإنفاق الحكومي على المشروعات التنموية, وهو ما سيزيد من وتيرة الدورة الاقتصادية داخل المملكة مستقبلا. والأهم أن الحكومة أرسلت إشارات مهمة عن نيتها التوسع في الإنفاق الحكومي وهي رسالة لها مدلولات مهمة لتشجيع الاستثمار الداخلي وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
يذكر أن المملكة استطاعت في السنوات القليلة الماضية تقليص دينها العام ورفع احتياطاتها النقدية عبر انتهاجها لخطط وبرامج اقتصادية متوازنة بعيدة عن المخاطر غير المحسوبة. واستطاعت المملكة عبر سياستها الاقتصادية الفعالة أن ترفع من مستوى إنفاقها على البنى التحتية وهذا الشيء وضح من خلال إقرارها للميزانيات الضخمة والارتفاع المستمر في الإنفاق الاستثماري. وهذا ما انعكس إيجابا على مختلف القطاعات المحلية من صناعة وصحة وتعليم وبناء, فقد تم إقرار بناء خمس مدن اقتصادية تتوزع في مختلف مناطق المملكة, وهذه المدن ستجعل المملكة تواكب متطلبات العصر الحالي وستخلق ملايين الفرص الوظيفية, وفي القطاع الصناعي أصبحت المملكة من الدول الرائدة عالميا في الصناعات البتروكيماية, وفي مجال التعليم ولحرص ولاة الأمر على بناء الإنسان الفاعل والمنتج الذي يستطيع يواجه ويواكب متطلبات العصر الحالي. فقد تم الاهتمام ببناء الجامعات وفق أحدث النظم العالمية حتى بلغ عدد الجامعات في المملكة (25) جامعة، من أهمها جامعة الملك عبد الله التي تعتبر من أرقى الجامعات في تجهيزاتها وبرامجها التعليمية على مستوى العالم.
عبدالعزيز العنقري