سررت كثيراً هذه السنة بالتنسيق الجاد بين الجهة المختصة بإثبات الهلال، وبين مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية المختصة بعلم الفلك والكون. بعد أن وصل موضوع إثبات الأهلة إلى جدل عقيم في السنوات الماضية،
فكان لابد من قرار إداري يحسم المسألة، ونجحت المحكمة العليا ممثلة برئيسها وأعضائها في ما يخص إثبات دخول الأشهر القمرية بطريقة علمية صحيحة، من خلال تفعيل لائحة تحري رؤية هلال أوائل الشهور القمرية، الصادر من مجلس الشورى، برقم: (11 - 5 - 18)، وتاريخ: 3 - 2 - 1418هـ، وأويد بقرار مجلس الوزراء، ذي الرقم: (143)، وتاريخ: 22 - 8 - 1418هـ، وتم اعتمادها من لدن خادم الحرمين الشريفين.
نجحت المحكمة العليا في إدخال شهر رمضان وإخراجه هذه السنة بطريقة علمية صحيحة، دون المفاضلة بين الرؤية الشرعية والحساب العلمي. على الرغم من أنه قد جاء ليلة الجمعة قبيل رمضان هذا العام من يشهد برؤية الهلال، فردت تلك الشهادة، نظراً لارتباط تلك الشهادة بما يكذبها، وهو استحالة رؤية الهلال في تلك الليلة.
وهذا المنهج هو الموافق لقرار هيئة كبار العلماء، بضرورة الأخذ بالرؤية الشرعية والحساب الفلكي في تحديد بدايات الشهور القمرية، والأخذ بعلم الفلك في حال النفي دون الإثبات، وذلك جمعاً بين النصوص الشرعية، وبين الاستفادة من علم الفلك من أجل تحقيق المقصود لرؤية الهلال. وهو ما أكده عضو هيئة كبار العلماء، الشيخ الدكتور: عبدالوهاب أبو سليمان، من أن: مجلس هيئة كبار العلماء توصل إلى قرارات، من بينها: قرار في حالة إذا ما جاء شهود يقولون: إنهم رأوا الهلال، وفي نفس الوقت يقول المختصون من علماء الفلك: لا يمكن رؤيته في تلك اللحظة. فإن القاعدة تقول: إن أي قول لابد أن ينفك عما يكذبه، فعلماء الفلك يقولون: لا يمكن رؤيته، وهم يقولون: إنهم شاهدوه، فترد شهادتهم.. ومن هنا فإن مسألة إثبات طلوع الأهلة من شأن الفلكيين، وليست من شأن العلماء، ونحصر دور العلماء في إعطاء الحكم بعد ذلك، في وجوب دخول رمضان أو لا.
إن الاعتراف لعلماء الفلك بحق القول، واعتبار رأي الهيئات العلمية، التي لديها علماء مختصون في علم الفلك وحقائق الكون ودقائقه، سيكون سبباً في تضييق دائرة الخلاف والتفرق والتشتت. ولذا فإنني لا زلت أذكر بحثاً علمياً ماتعاً، أجراه الباحث: عدنان قاضي، بعنوان: (دراسة فلكية مقارنة بين يومي الدخول الرسمي والفلكي لشهر رمضان في المملكة العربية السعودية)، وكانت فترة هذه الدراسة قد استغرقت (46) شهراً رمضانياً، من الخميس (1) رمضان 1380هـ، فأظهرت الدراسة: أن يوم دخول رمضان حسب الإعلان الرسمي يسبق بشكل دائم يوم دخول رمضان حسب الشروط الفلكية، في حين وافقت طريقة الرؤية التقليدية المتبعة في إعلان دخول رمضان الحساب العلمي الفلكي في (6) من (46) مرة، أو بنسبة 04.13%، علما بأن إحدى المرات، في عام 10 - 1 - 1997م، لم تستوف الشروط كاملة، بينما عارضت طريقة الرؤية التقليدية المتبعة الحساب العلمي الفلكي في إعلان دخول رمضان في (40) من (46) مرة، أو بنسبة 96.86%، بينما في ليلة إعلان دخول رمضان كان الهلال بعد غروب الشمس تحت الأفق في (29) من (40) مرة، أي: بنسبة 50.72% لمرات التعارض، أو بنسبة 04.63% لكل فترة.. وبناء على ذلك، فلدينا الدليل العلمي الذي يظهر بوضوح: أن الطريقة التقليدية لإثبات الشهور بالرؤية المتبعة لـ(46) سنة فائتة، كانت طريقة تتعارض تماماً مع المنهج العلمي لعلم الفلك الحديث، وليس لها سند مادي. أيما فرد، أو أفراد يدعون أنهم رأوا الهلال في الوقت الذي يكون فيه الهلال تحت الأفق، فهم شهود المستحيل. وحينما تكون نسبة الخطأ في ادعاء الرؤية لهلال رمضان 04.63% (وهذا فقط لكون الهلال تحت الأفق )، فإن الطريقة المتبعة مهما كانت لا يعتمد عليها، ويجب إعادة النظر فيها، وحتى استبدالها بما يتفق مع ما خلق الله. كما تظهر الحقائق الكونية: أن الفقه الذي يبررها لا يستند على فهم شمولي لشرع الله، ولا على فهم حقيقي لما خلق الله.
drsasq@gmail.com