بمناسبة الذكرى الثامنة لاعتداءات 11 سبتمبر، ومرور ثمانية أشهر على الإدارة الأمريكية الجديدة، تظهر أسئلة، منها: ماذا فعلت سياسات أوباما في الشرق الأوسط؟ وكانت وعود أوباما الانتخابية تتركز على ثلاثة محاور: سياسة جديدة لأمريكا في الشرق الأوسط، برنامج جديد للرعاية الصحية، حل الأزمة الاقتصادية الحادة.
بطبيعة الحال فإن الذي يعنينا هو الوعد الأول.. وباستعراض أحداث وسياسات الأشهر الأولى لإدارة البيت الأبيض يمكن القول إننا أمام مرحلة سياسية جديدة مختلفة عن المرحلة التي قبلها. وأهم مظاهر سياسة أوباما مع العالم العربي بدأت بتغير خطاب المواجهة الذي استخدمه بوش إلى لغة الحوار والتفاهم، صاحبها تبدل سياسة الإملاءات إلى سياسة المشاركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
أما أوضح التطبيقات فكان بدء سحب القوات الأمريكية من العراق، وتوقف الإدارة الأمريكية عن انتقاد السياسات الحكومية الداخلية للدول العربية، وتحسن تدريجي وبطيء في العلاقة مع سوريا، مقابل الضغط على إسرائيل لوقف الاستيطان؛ مما أدى إلى برودة العلاقة معها على نحو غير مسبوق على الأقل من الناحية الخطابية (وأول الحرب كلام!).
ومن المظاهر التي تزامنت مع السياسة الأمريكية في المنطقة تحسن العلاقات بين بعض الدول العربية التي تعرضت لبعض التوتر أو البرودة، خاصة بين ما يطلق عليها دول المواجهة ودول الاعتدال، وفي مقدمتها السعودية ومصر من جهة وسوريا من الجهة الأخرى. هذه الأجواء المتفائلة خففت من التوتر والشحن النفسي والإعلامي للرأي العام العربي مع ما صاحب ذلك (وربما تأثر به) من تراجع تيارات التشدد الأيديولوجي (التيارات الإسلاموية) في انتخابات أغلب الدول العربية.
ويمكن النظر إلى لبنان باعتباره أحد المقاييس في تحسن الأجواء السياسية العربية، حيث الأغلبية البرلمانية (الموالاة)، وفي مقدمتها تيار المستقبل، تتفق مع المعارضة، وفي مقدمتها حزب الله، على تشكيل حكومة موحدة. صحيح أن مثل هذا التشكيل لا يزال غامضاً وحذراً، وتجربته الأولى لم تنجح ويحتاج إلى مزيد من الجهود، إلا أن الصحيح أيضاً أن مثل هذه الحكومة الموحدة كانت ضرباً من المستحيلات قبل عام واحد، وكان الوضع قبل عامين على شفير حرب أهلية، فيما كان الوضع العربي في واحدة من أسوأ حالات التشرذم.
تحسُّن الأجواء لا يعني أن الأوضاع أصبحت جيدة بل إنها كانت سيئة وأصبحت أقل سوءاً.. ذلك يدعو للتفاؤل الحذر.. فإذا سار التحسن دون مفاجآت فقد نكون مقبلين على مرحلة من الاستقرار والتعاون العربي المشترك الذي سيفضي إلى منافع للدول العربية.
لكن لا تزال هشاشة الوضع تجعل الأجواء قابلة للانفجار في أية لحظة أمام المفاجآت أو أمام أي تبدل جزئي دراماتيكي قد يثيره أحد الأطراف، مثل تلك التي حدثت فجأة بين العراق وسوريا، عندما ذكرت الأولى أن تفجيرات الأربعاء الدامي (19 أغسطس) في بغداد رُتب لها في سوريا، وتوترت العلاقة بينهما.. الغريب أن ذلك أتى متزامناً مع الوقت الذي نراقب فيه إنشاء حلف جديد بين كل من تركيا وإيران وسوريا والعراق.. فهل ثمة نظرية لمؤامرة ما!؟ فما أسهل التنظير للمؤامرة بعد أن يحصل الحدث!
ومن العوامل التي قد تعطل التحسن التدريجي للأجواء السياسية العربية هو انتصار التيار المتشدد في انتخابات إسرائيل؛ مما يضعف موقف الاعتدال العربي الذي يُقابل بصلف وتعنت إسرائيلي؛ فتغدو مبررات الاعتدال ضعيفة أمام تنامي قوى المواجهة وحقها الطبيعي في المقاومة. ولكن التشدد الإسرائيلي الجديد يمكن أن يخدم الجانب العربي لو أدى ذلك لبداية علاقة باردة بين إسرائيل والبيت الأبيض كما يلاحظ الآن؛ مما قد يشجع على ترطيب العلاقات العربية - الأمريكية؛ ومن ثم دعم قوى الاعتدال العربي..
أيضاً ثمة عامل آخر قد يربك تحسن الأجواء السياسية العربية وهو ما أفرزته الانتخابات الإيرانية من فوز أحمدي نجاد وخطه المتشدد تجاه الولايات المتحدة والملف النووي؛ فذلك لن يخدم التوجه الجديد لإدارة أوباما في ترطيب علاقاتها مع إيران؛ وبالتالي سيؤثر على الأجواء في المنطقة، خاصة مع تلك الجهات التي لإيران نفوذ عليها كبعض الحركات في العراق وحزب الله في لبنان وحماس في غزة.. وإن كان نجاد أصبح محاصراً بمعارضة قوية داخلية قد تضطره لتعديل سياسته وتخفيف تشدده، على نحو ما شهدناه في خطابه الهادئ في الأمم المتحدة الأسبوع الماضي، وتعليقاته الأخيرة على ردود فعل الدول الغربية المتشنجة حول إعلان إيران عن وجود منشأة نووية جديدة، حيث كانت تعليقاته هادئة وبها نوع من الثناء على أوباما..
هل هذا يعني أن ما يحصل من تحسن في الأجواء السياسية بين الدول العربية هو نتيجة سياسة أوباما، أم أن المرحلة السياسية السابقة وصلت إلى نهاية دورتها الطبيعية واُستنزفت ولم تعد الأطراف الرئيسية راغبة في المضي بمزيد من التوتر والمواجهة؟ قد يكون كلا الاحتمالين وارداً، لكن الأكيد أن هناك أزمات داخلية في المنطقة العربية بعضها حاد جداً، كما في العراق والسودان واليمن ولبنان، وبعضها خطره كامن كحركات الإرهاب والتيارات المتشددة الطائفية والعشائرية وفشل مشاريع التنمية والفقر والبطالة.. وهذه الأزمات لم يُختبر تفاعلها مع المرحلة السياسية الجديدة التي تتصف بانفراج نسبي؛ فذلك يستلزم بعض الوقت..
إذن، هذا الانفراج في الأجواء السياسية يمر بمرحلة مخاض عسيرة وقد يُجهض مصطدماً بتفوق تأثير الخط المتشدد في إسرائيل، وتحفيز التشدد في إيران وفي المنطقة العربية.. بالمقابل فإن تحسن العلاقة بين أمريكا وسوريا يمكن أن يكون مفتاح التهدئة في المنطقة؛ لأنه سيفضي إلى الضغط على كل قوى التشدد، لكن ذلك يتطلب أن تضغط أمريكا بجدية على إسرائيل لتقديم وعود واضحة بشأن الانسحاب من الجولان المحتل ووقف الاستيطان، وهذا ما لا يبدو ظاهراً مع تصريحات نتانياهو المتطرفة.
ثمة وجهة نظر أخرى مختلفة تماماً، ترى أن تحسن الأجواء السياسية العربية لن يكتب لها النجاح دون تحسن الأوضاع العربية الداخلية، خاصة مسألة الإصلاح، وبالذات الإصلاح السياسي والدمقرطة. وجهة النظر هذه تدعو أوباما إلى توجيه اهتمامه إلى ملف الإصلاحات، لكن البعض يرى أن سياسات بوش وممارسات الجيش الأمريكي في المنطقة جعلت مصداقية الإدارة الأمريكية في الحضيض، ولم تعد قادرة على تبني خطاب حقوقي إصلاحي لتطوير أحوال المنطقة؛ ومن ثم فإن براجماتية أوباما تجعله يركز على القضايا السياسية الأبرز وضوحاً: الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان، الملف النووي الإيراني، الاحتلال الإسرائيلي، العلاقة مع سوريا..
رغم عدم وضوح الرؤية بشكل صاف حول المسار الذي ستتخذه الأحداث وسياسات الإدارة الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط، لكن من الواضح أن الهدوء النسبي وبعض الانفراج قد بدأت بوادره.. إلا أن الأشهر القليلة القادمة ستوضح توجه كثير من المسارات..
alhebib@yahoo.com