ما أطيب أن يقضي الإنسان إجازته في مسقط رأسه، ومرتع طفولته، وملاعب صباه، ولذلك لم يكن غريباً أني لم أفكر عندما كنت طالباً في جامعة الملك سعود أن أقضي الإجازة الصيفية أو إجازتي عيدي الفطر والأضحى إلا في ربوع عنيزة الفيحاء.
|
و مازلت وقد مضى على تخرجي من هذه الجامعة العتيدة ما يقرب من نصف قرن، وتقلبت بي محطات العمر - أو تقلبت فيها -؛ دراسة في بريطانيا وعملاً داخل الوطن العزيز.. مازلت أفضل أن أقضي كل إجازة لي في ربوع تلك المدينة الجميلة الحبيبة إلى نفسي.
|
وأذكر أن سفري من الرياض إلى عنيزة كان مع خيرة من الأصدقاء والأحباب على ظهر وايت مملوء بالوقود، ولم يكن الطريق معبداً ولا ممهداً. لكن ثقل الحمولة كان، فيما يبدو، مما يساعد على عدم حدوث مطبات متعبة. أما السعادة في الرحلة على ظهر الوايت فكانت أعلامها ترفرف؛ ابتداء من انطلاق السيارة من مدينة الرياض وانتهاء بانحدارها من الجال المشرف على عنيزة من الشرق؛ وهو الجال الذي أشار إليه الشاعر الكبير محمد العبدالله القاضي، رحمه الله، بقوله:
|
لي ديرة وادي الرمه هو شماله |
وغربيه الضاحي وشرقيه الجال |
وأشار إليه كاتب هذه السطور بقوله عن مدينته الفيحاء:
|
ننام ما بين جالس كله شممٌ |
وبين كثبان رملٍ كلهن إبا |
وإن تأمَّلت أزياء تتيه بها |
رأيت من بينها البرحيَّ والعنبا |
وكانت قصائد الهجيني في السفر - وإن لم يكن على ظهور الهجن؛ بل على ظهر وايت صنع في الغرب - لا تتوقف أثناء المسير إلا للاستماع إلى سالفة مثيرة أو فكاهة شيقة. وكان الشعر المردد - كما جرت العادة - بغير اللغة الفصحى، لكن كان من لطف عالم النحو الكبير، الشيخ علي بن محمد الزامل، رحمه الله، - وربما لمحبته للفصحى وما قيل بها - أن شال بنا معلقة امرئ القيس باللحن الهجيني.
|
وتطورت وسائل الراحة في السفر - أو لنقل تغيرت - فأصبح المرء يقطع المسافة بين الرياض وعنيزة في حدود ثلاث ساعات أو تزيد قليلاً إن كان سائق السيارة ممن يراعون نظام المرور. وأصبح المسافر وحده في سيارته أو معه أسرته، وبات للمذياع، أو المسجل، الكلمة المهيمنة في أغلب الأحيان. أما الراحة الجسدية، وأما اختصار زمن السفر، فواضحان وضوح الشمس في رابعة النهار، كما يقال. لكن هل مشاعر المسافر بالسعادة الآن لها ذلك الوهج، أو العبق، الذي كان موجوداً بالأمس؟
|
وذكريات إجازاتي في عنيزة الفيحاء كثيرة، والحديث عن بعضها؛ ناهيك عن كلها أو أكثرها، يطول. لكني أود أن أشير باختصار إلى أن عيد رمضان بالذات كانت له متعته التي لا تضاهى بالنسبة للأطفال والفتيان والفتيات مع ضعف الإمكانات المادية في الماضي. فما كن يحصل عليه الأطفال في الأيام الثلاثة السابقة ليوم العيد من الأقارب وأصدقاء أسرهم مع قلته له نكهته الخاصة. والسياق؛ وهو أن يدفع الفتى قليلاً من المال، لشراء ما يؤكل ويشرب ليلة العيد كانت له أهميته وحلاوته. واجتماع من يجتمعن من الفتيات في أحد البيوت أو الأحواش للرقص قبيل صلاة العيد كانت له جاذبيته. بل إن ذهاب الكبار إلى مصلى العيد سيراً على الأقدام كان ممتعاً وصحياً؛ إضافة إلى كونه فضيلة دينية وهو الأهم. وملابس العيد - إن أمكن أن تكون جديدة - سعادة، وإن لم يكن (السعيد من لبس الجديد؛ بل من راقب الله فيما يبدئ ويعيد).
|
هل ما هو موجود الآن فيه سعادة تضاهي سعادة الأمس؟ سؤال يملك الإجابة عنه من عاش فترة الأمس وزمن الحاضر. لكن كثيراً من أمور الحياة في الخمسين سنة الماضية أصبحت صناعية واحترافاً.
|
ومن أساليب إظهار الفرح في الوقت الحاضر ما يعمل يوم العيد واليومين التاليين له من مفرقعات بعضها يكلف ميزانية الدولة ملايين الريالات؛ وهو، في الواقع، يدل على رغبة في إهدار المال العام، أو - على الأقل - عدم اكتراث بإهداره؛ إضافة إلى ما فيه من إزعاج لمن لا يطيقون الإزعاج وأخطار وتلويث للبيئة، من المستفيد من ذلك؟ جواب ذلك لا يعرفه كاتب هذه السطور.
|
ومن أساليب إظهار الفرح ما يقام من عرضات وألعاب ومسرحيات. وكل هذه أمور مسلية. وقد ينتج عنها إبداع جيد. ومما لفت نظري في عنيزة الفيحاء إعادة ما تحدثت عنه في العام الماضي؛ وهو أن العرضة النجدية، التي عملت هناك كان فيها من الإبداع وتحسن الإشادة به.
|
ذلك أن العرضة بدأت بمسيرة قبل وصولها إلى ساحة التجمع يتقدمها خيالة، ثم راكبو إبل، ثم تلت هؤلاء وأولئك من يدقون الطبول وصفوف الراقصين بالسلاح. وبعد العرضة بدأ طق السامري، الذي امتاز به أهل هذه المدينة، وتوارثوه جيلاً بعد جيل، إلى غير ذلك من فنون ورديات شعرية.
|
ما الذي يود كاتب هذه السطور أن يراه لتكتمل السعادة؟ أمران: الأول أن يتحسن وضع المرور في تلك المدينة، أو - على الأقل - أن لا يزداد سوءاً. فمما يراه المرء كثرة من لا يستعملون الإشارة الدالة على وجهة سيرهم؛ يميناً أوي يساراً، أو وقوفاً. وعدم تحسن ذلك الوضع لا يدل على استقامة حضارية؛ ناهيك عن أن يكون دالاً على تقدم حضاري.
|
والأمر الثاني أن يصحح ما ارتكب خطأ لا أعلم من المسؤول عنه؛ وهو أن أسماء مساجد حارات معروفة مشهورة ما زالت قائمة، والأوقاف التي عليها بتلك الأسماء؛ كل ما هنالك أن المسجد أعيد بناؤه من الأسمنت فإذا باسمه الصحيح الذي يرمز إلى الحارة التي هو فيها قد غير باسم آخر. ومن أمثلة ذلك مسجد الملاح. فهل يتكرم العقلاء من المسؤولين، ومن ينظر إليهم على أنهم كبار جماعة البلد، بتصحيح الخطأ وإعادة أسماء المساجد كما كانت؟ إن الأسماء الجديدة (على العين والراس) - كما يقول المثل الشعبي - لكن من الممكن أن توضع لأسماء مساجد تبنى في حارات جديدة.
|
|
|