ماذا كان سيتكلف على رئيس التحرير الأستاذ/ خالد المالك أو على جريدة الجزيرة، وكذلك على وزير الإعلام أ. عبد العزيز خوجة ووزارته لو أنهم أفسحوا مساحة في مبنى هذه الصحيفة وسواها للكاتبات ليس بالضرورة لدوام رسمي، ولكن -على الأقل...
بتخصيص عدد من المكاتب مؤهلة لتقديم بعض الخدمات المساندة لكتابة المقالات من الكمبيوتر إلى الانترنيت وسواها من التقنيات التي لم يعد لأي كاتب في الوقت الحاضر غنى عنها إذا كان يروم كتابة تحليلية مواكبة للحدث، سواء الحدث الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي أو الكتابة في الشأن العام عموما وقضايا المجتمع أو الفكر.
ولا أقصد بهذه المكاتب تلك المساحة العامة المخصصة للعمل الصحفي أو ما يسمونه بمطبخ الصحف؛ حيث لا تتسع إلا للصحفيين أو من يحملون هذا المسمَّى مجازاً، وبجهد جهيد من الزميلات الصحفيات ممن خصصت لهن بعض الصحف ملاحق خلفية محدودة الفعاليات والصلاحيات في المباني الفخيمة لهذه الصحيفة أو تلك, ولكني أقصد مكاتب مهيأة لكتابة الرأي والتحليل تحديدا بتقنيات وطواقم بحثية وتحريرية مساندة على غرار ما يوجد في عدد من كبريات الصحف العالمية والعربية من الإندبيندنت وكرستين ساينس مونتر إلى الأهرام والنهار. وأنا إذ كنت بحكم واقع الفصل لم تطأ قدمي قط مبنى أي صحيفة من صحفنا السعودية التي كتبت على مدار العمر منذ كنت بالمرحلة الدراسية المتوسطة بانتظام أسبوعي أو يومي كتابة رأي في عدد منها من صحفنا الصادرة بالمنطقة الغربية إلى الصحيفة الرئيسية بالمنطقة الشرقية، وهي جريدة اليوم إلى صحف المنطقة المركزية أقصد الصحف الصادرة من العاصمة الرياض إلى أن استقر بي المقام في هذه الصحيفة ما يزيد الآن على خمسة عشر عاما, لا أعلم إن كان هناك فسحة في مباني أي من صحفنا المحلية للزملاء من كتاب الرأي الرجال, فإنني عن تجربة طويلة مع حرقة أحماض الحبر وجروح الحرف واشتعالات لوحة شاشة الكمبيوتر، أعرف حق المعرفة أن ليس ثمة مكان بمساحة مدة قلم أو لوحة مفاتيح يتاح فيها حضور الكاتبات في مكاتب الصحف إلا باستثناء، كما ذكرت بعض مكاتب الصحافة النسائية الملحقة بمباني بعض الصحف والمختصة باستقبال الصحفيات ليس إلا.
انفلت خيط هذا الهاجس القديم الجديد من تفكيري رغم ما صرت (أتحلى) به مؤخرا من (تحفظ) شديد يكاد يخنقني وكثيراً ما يضيق الخناق على جموح الكتابة وأدوات صدقها الجارحة بطبعها لدرجة كثيرا ما تعنفني عليه طاقة العنفوان التي تفور في عروق الأوراق غير عابئة بما أحاول أن أتقنه من فن القول بأقل قدر ممكن من حدة الرأي و زعانف الكلمات.
ومثير هذا الانفلات ليس سببا سياسيا - والحمد لله- مما يحدوني بأمل أن رئيس التحرير لن يحجب مقالي اليوم، كما فعل مع مقال الأسبوع ما قبل الماضي، فهو على تسامحه أحيانا وصبره الجميل معي ومع بعض الزملاء إلا أن لابد له ما يراه من التوازنات وهو في نفس الوقت على التزامه بسقف للمقالات إلا أنه ليس خليا من حب حرية الرأي وعشق أجنحة الأبجدية.
على أني بمحاولة إيقاف سيل هذه التداعيات مما قد لا يكون لها داع موضوعي كبير غير نرجسية جماليات السرد أعود لمسببات مطالبتي بأن يكون هناك مساحة مهيأة في مواقع الصحف لاستقبال كتاب وكاتبات الرأي ومدهم بمناخات مساعدة للعمل، وهو أكثر من سبب في واحد: السبب الأول هو عودة معاناة انقطاع خط الإنترنيت في الأسبوع عدة مرات ببيتي منذ عودتي إلى أرض الوطن مما لم أعاني منه للحظة واحدة بالخارج. السبب الثاني: هو فقدي لمحمولي الذي أدعو الله من الأعماق أن (يعقلني) عليه سالما غانما لم تمس شعرة واحدة من رأس ملفاته التي أحتفظ فيها بكل حرف كتبته في الثلاث سنوات الماضية. فقد تسبب هذا الضياع في إرباكي وطفقت أبحث عن محمول أستعيره من هنا أو هناك وقد أزف موعد المقال لهذا الأسبوع، وكنت قد كتبته على المحمول المفقود عن (سيسولوجيا رسائل الجوال في تهاني وتبريكات المناسبات بالمجتمع السعودي) مما جعلني كمن أسقط في يده.
السبب الثالث والأهم: هو ما أراه من أنه قد آن الأوان لأن يكون هناك مساحة لكاتبات وكتاب الرأي أيضا (إن كان لا يوجد للكتاب مثل هذا المكان) في مواقع الصحف ومبانيها تمدهم بأسباب ممارسة الكتابة كمهنة وكعمل، ولا يكتفى في هذا العمل الهام (عمل كتابة الرأي) تركه ليمارس من المنازل وحسب, كعمل مسترق من ضجيج الأطفال واستقبالات الضيوف وزيارات الأهل والجيران خاصة في مجتمعنا الذي ليس فيه للبيوت في وجه الطارق أبواب أو موعد زيارات. والحاجة قد تكون أكثر إلحاحا للكاتبات لأن كتابة الرأي وكتابة المقالات التحليلية عمل يحتاج إلى جو من الصفاء الذهني، كما يحتاج لساعات من الاستغراق في العمل والبحث والانقطاع المخلص لإنجازه بما يتيح تقديم إنتاج متقن غير مقتطع من فجوات الجدول الحياتي اليومي للكاتبة أو الكاتب. قد يقول قائل: إن هناك اتجاها اليوم، وحتى في كبريات الشركات، للتوظيف المنزلي، خصوصا بوجود ثورة الاتصالات إلا أنني أرى أن هذا القول قد يكون صحيحا، ولكن في غير هذا السياق بالذات، وفي غير تلك المجتمعات التي لم تنجز مفهوم كتابة الرأي في الصحف كعمل مهني له قواعد وله ضوابط في الواجبات والحقوق من واجب الالتزام والشجاعة والأمانة والموضوعية والإضافة والإتقان إلى الحق في مكان معد للعمل والحقوق المالية غير المقتطعة من فتات مداخيل الصحف مهما ارتفعت نسب مداخيل تلك المطبوعات. وكذلك حق كتّاب الرأي وكاتباته في عقد بين ببنود واضحة تحدد التزام الطرفين الصحيفة/ الكاتبة والكاتب. بتوافر مثل هذه الشروط وما إليها نعمل على بناء كادر مهني من كتاب الرأي وكاتباته قد يكون منهم المختص في التحليل السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي وسواها؛ مما يطور كتابة الرأي ويطور الكتابات التحليلية في مجتمعنا، مثلنا مثل باقي المجتمعات التي تقدر خطورة وأهمية هذا النوع من الكتابة.
صحيح أن هناك جيلا من كتاب الرأي يعتد ببعضهم ممن أخلص لهذا العمل واعتبره مشروعه الحياتي والوطني معا بدون إعداد مناخ مهني مقنن، ولكن بعض ذلك كان في زمان يختلف عن لحظتنا التاريخية الراهنة؛ حيث كان المناخ الثقافي والسياسي والاجتماعي العام هو بحد ذاته أرضية خصبة لخروج مثل أولئك الكتاب من الملتزمين بكتابة الرأي كعمل بل كحياة.
أقول ذلك مع التأكيد على أهمية قمقم الرأي الذي انفتح -والحمد لله- على مصراعيه بوجود مختلف مواقع الانترنيت والمدونات، ولكن وجود هذه النوافذ لا يعفي الصحافة بأنواعها من مهمة العمل على تطوير كتابة الرأي كصناعة تتمتع بالحرية والحقوق معا وتتحمل مسؤولية الكتابة كعمل عليه أن يتحلى بالإتقان الموضوعي ومعايشة الواقع وبالاستشراف الإبداعي في الرؤية والأسلوب.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر فلا بد أن نسأل الصحف وهي تمول كراسي جامعية: ما الذي هيَّأته لكوادرها الصحفية من برامج التطوير المهني على مستوى عملي وعلى مستوى نظري بالتعاون مع الجامعات في الداخل والخارج، ومع دور الصحف العالمية العريقة, والسؤال الآخر في صلب موضوع المقال: ما الذي قدمته الصحف أو تنوي تقديمه لكتاب وكاتبات الرأي سواء الضليعون منهم أو جيل الشباب غير مساحة للنشر لا تخلو من مفاصلات سقفها ومكافأة ليس هناك مقاييس في الغالب لتحديد مقدارها أو تقدير جهدها الممض إلا مقياس رؤساء التحرير، كل حسب نخوته أو تقديره لأهمية -أو لا أهمية- كتابة الرأي وكتابها. وأختم بمعايدة الجميع وأخص بالذكر أبو بشار وطاقم مكتبه من الزملاء الأعزاء: عبد الإله القاسم، فيصل المبارك، معاذ الجعوان ومحمد الفيصل وسواهم من جنود جريدة الجزيرة على ما يتحملونه معي لنشر المقال.
هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.