عندما تسود العلاقات التشنجية مع المنظومات الفكرية المتباينة يجنح كل فريق نحو التكور- من الكرة - على آرائه والتخندق على ذاته مما يعيق تكوين صورة ذهنية موضوعية عن أفكار المغاير..

التي يتم قراءتها أحياناً عبر وساطات لا تترجم بالضرورة التوجه الحقيقي للمخالفين، ومن ثم تبدأ سجالات صراعية مبنية على رؤى ضبابية قد لا يكون لكثير منها رصيد من الصحة. كل فئة تختزل الأخرى في حزمة من الأفكار يجري محاكمة المخالف بناء عليها بل ويتم تعميمها حتى لا يكاد يذكر المخالف إلا وهي بإزائه، ومن خلال تلك الصورة النمطية يباشر كل طرف مهمة إسقاط الآخر وعزله معرفياً وتشويه حججه حتى لو اقتضى الأمر بتجريدها من سياقها الفكري. إن ثمة عوامل متنوعة تعرقل التواصل الحواري بين الفرقاء أذكر شيئاً منها كما يلي:

أولاً: تغلغل روح التعصب للأشخاص والأفكار والمدارس المذهبية، فالمتعصب ليس لديه منطقة رمادية, بل هو غارقٌ في عبودية فكرية حيث هو مستعبد لآرائه لا يتزحزح عنها قيد أنملة حتى ولو تجلى له عدم توفرها على الصوابية فليس لديه مبدأ القابلية للاستئناف والتصويب, بل قد يعد الثبات الجمودي عليها شأناً محموداً لا يليق التنازل عنه. تلك الذهنية المتصلبة تبدي قدراً كبيراً من التخشب والتمنع فلا يمكن أن تسمع- مجرد سماع- لمن يخالفها فهي مقتنعة تماماً بأفكارها مثلها كما الطفل الذي تشبع بمفهوم معين فتجذر في عقليته ونبت عليه جسمه حتى باتت الفكرة جزءاً من كيانه ليس بمقدوره التحرر من مقتضياته.

ثانيا: التفكير المتسطح الذي تبهره الأعراض وتأخذ بلُبّه التجليات وينزع غالباً نحو التبسيط الذي يتنافى مع عمق التجربة الإنسانية. الشخص المتسطح يعاني ضموراً في قدراته الذهنية على نحو لا يؤهله للغوص في البواطن، والنفاذ نحو الجواهر ومن ثم ممارسة التحليل والاستنتاج. ليس في جعبته أسئلة وإن سأل فعلى نحو ينم عن عمق سطحيته وهو يقتنع بأي ردٍ فأدنى إجابة كفيلة بإسكاته وإقناعه؛ مثل هذا الصنف لا يطيق الحوار ولا يرحب به فهو يروم الأجوبة الجاهزة والتوجيهات المعلبة التي تتيح لعقله مواصلة الغط في سباته العميق!.

ثالثاً: شخصنة الحوار والتحول من الأفكار إلى الذوات وهيمنة اللغة الإقصائية على مجريات التخاطب, والتسفيه المتبادل, فأحياناً نصب جام غضبنا النقدي على الأشخاص على نحو خالٍ من اللباقة الدبلوماسية واللياقة الأخوية. الشخصنة معلمٌ من معالم التردي السلوكي الذي عندما يتمكن من المرء يفقده الحساسية المرهفة في التعاطي مع سواه؛ والمتمعن في جملة كبيرة من الحوارات يلحظ أنها تفتقر إلى صور الهدوء وتجليات الرزانة وتدني مستوى النظام اللغوي المعتمد, على نحو يفسح في المجال لانتخاب المفردات السفسافة المتناهية الجلافة, واللبيب السوي يدحض الفكرة بالفكرة ويفنّد الرأي برأي مضارع ويزور عن الفظاظة اللفظية واللدد العباراتي الذي يوسع مسافات التباين ويطمس معالم الحقيقة الوهاجة.

رابعاً: ضيق الأفق، فالبناء العقلي الهش يتعذر عليه الدخول في تفاعلات وتموجات وحراك بيني، ولذا فهو يؤثر التخبط في منهجيته ويجتر أخطاء غيره التي يجري توارثها بإمعية متناهية ويستنسخ رؤى مستعارة يفضل كل ذلك على الاشتباك في حوارات قد تفكك متبنياته وقد تجلي له حقائق أخرى أعمق وضاءة وبالتالي يضطر إلى التنازل عما عاش عليه طوال حياته، وهذا هو ما لا يرومه بل يتهرب منه ويتجافى ملاقاته حفاظاً على الانسجام مع الأنساق المطلقة.

خامسا: التربية الحدية التي تصادر رأي الطفل وتعمل على إلغاء فرادته، فثمة استبداد أبوي ينتظم أجزاء من المنظومة الاجتماعية تغيبت من جرائه قيمة الحوار لصالح حضور الصوت الواحد الذي ليس على الجميع إلا الانتظام في خطه والإنصات له والإذعان لإملاءاته وعدم التفكير- ولو مجرد تفكير!- بمعارضته أو تفنيد ما قد يعتوره من مثالب!.