أن تنتمي إلى جهاز حكومي فيجب عليك بدءاً أن تفهم طبيعة هذا الجهاز؛ مهامه، نظامه، صلاحياته، والوظيفة التي يؤديها في المجتمع. هذه من ألف باء العمل في مؤسسات الدولة الحديثة. وعندما تتصرف أو تتحدث (بصفتك الوظيفية) بعيداً عن أهداف المؤسسة الحكومية التي تنتمي إليها فأنت واحدٌ من رجلين: إما أنك لا تعي مهامك الوظيفية التي تشغلها، وحدود صلاحياتك، وضوابط عملك، وما يجب أن يقال وما لا يقال لمن يشغل وظيفتك.. أو أنك تعلم، وتعي، وتدرك، ورغم ذلك تصر على (التمرد) على النظام، وعلى مقتضيات (الانضباط) المؤسسي للهيئة التي تستمد منها قيمتك الوظيفية. وأي من الاحتمالين (مصيبة) بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
هذا ما تبادر إلى ذهني وأنا أقرأ في وسائل الإعلام التصريح الذي أدلى به الدكتور سعد الشثري عضو هيئة كبار العلماء عن جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية والتي صرح بها (علناً) وعلى رؤوس الأشهاد إلى قناة المجد الفضائية.
وفي هذه العجالة سأتناول هذه التصريح من جانبين:
الأول نظامي: ينطلق من كون الدكتور الشثري يعمل، و(موظف)، ويتقاضى أجراً على وظيفته، لدى جهاز من أجهزة الدولة هو (هيئة كبار العلماء). وهذا الجهاز ينتمي (نظاماً) إلى هيكل الدولة وليس تنظيماً أو (حركة) خارج نطاق الدولة، وهيكل الدولة يقف على قمته خادم الحرمين الشريفين. بمعنى أن صفة الدكتور الشثري الوظيفية التي أخذ بناء عليها (مكانته الوظيفية) جاءت من خلال أمر ملكي، تم تعيينه بموجبه عضواً في (هيئة كبار العلماء)، وهذه الهيئة مؤسسة حكومية لها نظامها وضوابطها المؤسسية التي يجب على كل عضو فيها أن يلتزم بها. وفي حالة عدم قدرة أي عضو - لأي سبب من الأسباب - على الالتزام بهذا النظام، وضوابطه المؤسسية؛ أو أنه اكتشف لاحقاً أن الجهاز الذي تم تعيينه فيه لا يواكب قناعاته، أو أن ضوابط الجهاز النظامية لا تتفق مع (ما يجب أن يكون)، فله الحق كل الحق في أن (يرحل) ويترك الوظيفة؛ عندها يكون حُراً لأن يقول ما يشاء، ويصرح بما يشاء، ويعترض على أي قرار؛ فهو في التحليل الأخير لا يُمثل إلا نفسه، وليس الجهاز الذي ينتمي إليه.
الجانب الثاني ما يتعلق بالمدرسة (السلفية) التي تنتمي إليها، وتستمد منها قيمتك؛ وهنا بيت القصيد ومربط الفرس من القضية برمتها. فلو سألت أي طالب علم سلفي مبتدئ عن مقتضيات الطاعة في قوله تعالى{أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} لأجابك: أن المقصود طاعته جل وعلا، ومن ثم طاعة المعصوم صلى الله عليه وسلم، فيما (ثبت) عنه؛ والثالثة طاعة ولي الأمر صاحب البيعة (حصراً). وطاعة ولي الأمر المأمور بها شرعاً تقتضي الامتثال لكل ما يكرس هذه الطاعة، ويجذرها، ويرسخها، من قول وعمل. و(الطاعة) أو مقتضيات (عقد البيعة) تعني الاستقرار الاجتماعي، وانفراط هذا العقد يعني بالضرورة (الفتنة) بالمختصر المفيد والجامع، وهي التي يسعى كل فقهاء السلف إلى تفاديها بكل الأساليب والطرق حتى قيل: (ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان). وهذا لا يعني إطلاقاً الطاعة العمياء، والتسليم المطلق كما يؤكدون. فالذي أمر بالطاعة، وحث عليه، وقرنها شرعاً بطاعة الله جل وعلا وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، أعطى (الفقيه) الحق في المناصحة، ولكنه اشترط (السرية) كي لا تستغل النصيحة العلنية لمس هيبة الدولة، والتقليل من مكانة ولي الأمر صاحب البيعة. ومن يقرأ في تاريخنا المعاصر يجد كثيراً من (الحركيين) السياسيين امتطوا (النصيحة)، ووظفوا منابر المساجد، والآن البيانات في وسائل الإعلام، للنيل من هيبة الدولة، والتحريض (بخبث) على القائمين عليها. ولو سألت والدك معالي الشيخ ناصر -حفظه الله- لحدثك عن أولئك (الثوريين الإسلامويين) الذين وقعوا قبل قرابة العشرين سنة ما سموه (مذكرة النصيحة) وكان هدفها الأول والأخير (هَد) البيت على ساكنيه؛ ولا بد أنك لم تقرأ بعمق وتفحص ما اكتنف البلاد في تلك الحقبة التاريخية من أولئك الحركيين وتذرعهم (بالنصيحة) لتمرير أجندتهم السياسية؛ لتأتي اليوم - هداك الله - وتكرر نفس الأسلوب، وتترك لحركيي (قناة المجد) أن يستغلوك، ويستغلوا مكانتك وقيمتك، لهز الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد.
أما تحفظك على ما يُسمى (الاختلاط) في جامعة الملك عبدالله فهو تحفظ يجب أن نحذر قبل إطلاقه. السبب أن لفظ (اختلاط) لفظ لا يمكن قبوله إلا إذا اعتبرناه من باب سد الذريعة؛ وإلا فهو من المصطلحات (الطارئة) على قاموس الفقه، ولم يُعرف له وجود في كل تراث السلف. وأنت تعلم أن سد باب الذريعة (عبارة) مطاطة، تحتاج من أجل تفعيلها تفعيلاً شرعياً صحيحاً أن تكون الحالة التي تتعامل معها حالة تفضي بالضرورة إلى (محرم)؛ وإلا فما يُسمى (الاختلاط) موجود منذ الأزل في الأسواق وفي المزارع وفي البيوت والآن في المستشفيات وفي كل مناحي الحياة، بل وفي المسجد الحرام أقدس بقعة في الأرض؛ ولا بد أنك تدرك أن (الخلوة) التي نص الفقهاء على منعها بين الرجل والمرأة تنتفي انتفاء مطلقاً بالاختلاط؛ فلا يمكن تصور (خلوة) في وسط يضج بالرجال والنساء.
أعرف أن كثيرين، وبالذات من الحركيين المتأسلمين، قد اعترضوا على الجامعة بحجة الذب عن الدين في الظاهر، أما في العمق فلهم في الاعتراض مآرب أخرى لا تخفى على الحصيف؛ فضلاً عن أن هؤلاء هم (من سقط المتاع) كما يقولون، فلم يكن لهم قيمة سابقة ليكون لهم قيمة لاحقة، أما أنت يا دكتور سعد، وبحكم منصبك الوظيفي، والثقة التي أولاك إياها ولي الأمر، فالأمر يختلف؛ فقياس نفسك بأولئك قياس مع وجود الفارق كما يقولون.
إلى اللقاء.