لا أذكر أنني صمدت مستمعاً لخطاب تتجاوز مدته ثلث الساعة، بعد ذلك كنت أقوم وأقعد وأذهب إلى دورة المياه وأتمشى في الممرات، وإذا كان مقر المحاضرة ضيقاً ولا مجال لفك قيدي من السلاسل التي قيدني بها المحاضر، فإنني في الغالب أتلهى بالحديث مع جاري حتى وإن كنت لا أعرفه، وإذا لم استطع جر الجار للحديث، فإنني أتلهى بتصفح شاشة الجوال الفقيرة في الغالب، أما إذا عز هذا وذاك فليس هناك إلا طريقان، الطريق الأول: اللجوء إلى الغفوات القصيرة وهي غالباً ما تحضرني في مثل هذه المواقف، أما إذا خشيت العاقبة فإنني أسبح في ملكوت الذاكرة والكون حتى يفرجها الله ويفك قيدي وقيد بقية الخلق!
وقد سألت العديد من الأصدقاء (الذين هم من طينتي بطبيعة الحال) فوجدتهم جميعاً على نفس الخط، فحمدت الله، وزال عني تأنيب الضمير، كوني أدعى لمحاضرة فلا ألتزم بآدابها، خاصة إذا كان المحاضر رجلاً من (الكبارية)، كما يعبر أبناء الحجاز الذين لم يتقنوا اللغة الثالثة التي يتداولها سكان العواصم!
قبل أيام انهار المترجم المكلف بالترجمة الفورية لأحد الزعماء العرب، وترك منصة الترجمة أمام دهشة المسؤولة عن قسم المترجمين العرب في الأمم المتحدة، فقد صمد هذا المترجم (75) دقيقة نقل خلالها كلاماً مكرراً يخبط بعضه بعضاً، وكان المتعارف عليه ألا تزيد خطابات الزعماء المشاركين في الدورة السنوية للأمم المتحدة على ربع الساعة، لكن خطبة زعيم زعماء العالم استمرت ساعة ونصف الساعة، رمى في نهايتها ميثاق الأمم المتحدة على مندوبه ثم نزل من على المنصة، وكان يود أن يستمر حتى يغط كل الحضور في نوم عميق أو ينهارون كما انهار المترجم الفوري الأول والثاني!
هذه العادة في الخطابات العربية الطويلة ليست جديدة على زعمائنا وعامة خطبائنا، وأن أذكر أن العديد من الزعماء العرب كانوا يستمرون على منصة الخطابة بالساعات وبين كل فقرة وفقرة، ينطلق التصفيق وأحياناً الزغاريد، وفي بعض الأحيان إذا كان رئيساً مؤمناً تنطلق بدلا من ذلك صيحات التكبير والتهليل، وفي اليوم التالي تخرج الصحف وليس فيها كلمة غير كلمة الأخ الرئيس، وتلك التعليقات التي تحلل وتوضح مقدار الذهب واللؤلؤ الذي لم يلحظه المستمعون وهو ينطلق من فم الأخ الرئيس القائد!
خطب هذه العينة من الزعماء لها ما يوازيها وأكثر في العديد من الدول القومية والاشتراكية والشيوعية، ولا يرد ذكر هذا اللون من الخطب إلا ونتذكر الصامد الأكبر (فيدل كاسترو)، فقد كان يقف على منصة الخطابة لمدة تصل إلى ثماني ساعات متواصلة، ولا ندري هل يأخذ (بريك) وسطها أم لا، وهل تعطى دقيقة راحة للمسلسلين على الكراسي أم لا، وقد ودع (كاسترو) الكرسي على مضض بعد أن اختبر شقيقه الأصغر (في منتصف السبعينات من عمره!) حتى سلمه مقاليد الأمور، بما فيها منصة الخطابة!
لقد قيل سابقاً: (كلما ضاقت العبارة، اتضحت الرؤية) وهي مقولة صحيحة مائة في المائة، لكن إذا أخذ بعض الناس بها فماذا يعملون بقية الوقت، خاصة وقد عودوا مواطنيهم أن تكون وجبة الكلام أهم من وجبة (الفالوذج).. ما هو (الفالوذج؟!) الإجابة عن هذا السؤال سوف تستغرق أكثر من ساعتين فهل أنتم جاهزون لذلك؟
فاكس 012054137