(أستطيع أن أرى بأصابعي) قالها أحد الرسامين رافضاً تسميته بالكفيف..!
|
في أحد البرامج الوثائقية التي عرضت قدرته على رسم لوحات فنية رائعة رغم فقدان بصره.. تبادرت إلى ذهني مقولة محمود درويش: (لست أعمى لأرى) ..
|
...فاستعرتها عنوانا لمقالي.. وتذكرت لحظتها كثيرا من رموز السير.. بشار بن برد.. أبا العلاء المعري.. طه حسين.. عبدالله البردوني وغيرهم كثير.. أين كانت تكمن أبصارهم؟ وكيف جسدوا لنا من ظلمة أعينهم سرجا ومصابيح تضيء الفكر وتنير معالم الخيال؟
|
أتعجب كثيرا حين أذكر قول المتنبي: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي... لأنه لم يجاوز الحقيقة فيما قال! فكم من هؤلاء درس شعره وحلله ونقده؟ وبسط أسراره أمام عشائر من المبصرين؟
|
|
(لويس برايل).. يعرفه الأعمى والكفيف لم ير في فقده نور الشمس عائقا من أن يصنع له على عالم القراءة مصباحا.. بل إنه اقتبس شعلة الضياء من سبب الظلام ولمن لا يعرف قصته فقد أصيب لويس برايل بالعمى بدءا بسبب مخرز في ورشة والده أصاب إحدى عينيه فأعماها والتهبت الأخرى حتى فقد بصره ثم التحق بإحدى معاهد المكفوفين التي كانت تستخدم آلات ضخمة في إعداد كتب المكفوفين بأحرف كالتي نقرؤها غير أنها بارزة ما جعل من إعدادها وحملها أمرا ثقيلا وليس للأعمى بها إلا أن يقرأ دون أن يكتب.. وهذا ما دعاه لإضاءة نور قلبه وعقله ليستدل الطريق؛ وبعد معرفته بأحد الضباط في الجيش الفرنسي أخبره بطريقة للأوامر العسكرية المشفرة التي تتخذ الرموز وسيلة للتخاطب فيما بين قيادات الجيش، حاول برايل أن يتعلمها لكنه وجد صعوبة في ذلك فقد كانت قرابة الاثني عشرة شيفرة معقدة ما قاده لابتكار ستة رموز فقط كتبها بذات الأداة التي أعمته (المخرز) فكانت فتحا لهم صنعوه بأيديهم، وهاهم اليوم يملكون حرفاً مميزاً يقرؤونه ليل نهار دون أن يفتحوا مقلهم ولا يضيؤوا سرجهم، كما قد كان لنا حرف نقرؤه بعد أن نستجديه بمصباح أو جذوة من ضياء؟ وكانت طريقة برايل هي الحرف الأسهل الذي يلج بهم إلى مدننا ومدن لا يراها سواهم..
|
|
مثل هؤلاء حين يتجولون بأعين منطفئة في مدن مضيئة؟ هل لنور المدينة لديهم أي معنى؟ وهل يرسم لهم شعاع الشمس أزقة مدننا ودروبها؟ الإجابة التي لا تخفى على الأعمى والبصير هي: لا
|
فنهار الأعمى وإن سطعت شمسه ليل لا قمر به ولا نجوم.. ليل ربما فقد حتى سواد لونه؟ وغدا بلا ملامح، لا يعرف كنهه وما هيته غير من أغمض عينيه عليه وصبر.
|
|
وبقراءة السير والعبر ترى كثيرا من هؤلاء الذين صنعوا من عالم الظلام سرجا تنير الدروب، لهم ولمن حولهم ومن بعدهم، سرج لا تنطفئ فمن شعلة البصيرة اقتبست جذوتها وبعين القلب رسمت خرائطها في متاهات الحياة.
|
|
أتساؤل سؤال عارف دس الإجابة في حروف تساؤله..كيف لشمس الدنيا ومصابيح العالم أن تعجز أن تعطي مثل هؤلاء خيطا من نور؟ وكيف لعماهم أن يُهدي العالم لجينية من ضياء وشعاعا من سراج؟
|
أضاؤوا حياتهم.. فأشرقت شمسهم وتلألأ بدرهم ونالنا من ضيائهم ما لم ينلهم من ضيائنا.. لست هنا لأذكر مآثرهم، فلن ينلهم من ذكري إلا كما ينالهم النور من شمس النهار.. لكنها دعوة لنا أن نصنع بالنور كما صنعوا بالظلام وإلا فلنتجرأ على طلبهم أن يأخذوا بأيدينا ويقودونا إلى مدن البصيرة إذا أعمانا الضياء.
|
|
عمِيتُ جَنِينا والذكاءُ من العَمَى |
فجئتُ عجيبَ الظن للعِلم مَعْقِلا |
وغَاضَ ضياءُ العينِ للقلب فاغْتَدَى |
بقلْبٍ إِذا مَا ضَيَّعَ النَّاسُ حَصَّلا |
وشعر كنور الروضِ لاءمتُ بينهُ |
بقَوْلٍ إِذَا ما أَحْزنَ الشِّعْرُ أَسْهَلاَ |
|
|