«لا جدال في الواقع» مثل إنجليزي رائع، يحسن التعامل معه، وتثقيف النفس على إدراك مضمونه، وتطبيقه في حياتنا اليومية، فمن غير المجدي أن يضيع المرء جزءا من وقته في جدل حول أمر واقع ليس في مقدوره تغييره، وإنما الأجدر به قبوله مهما كان موقفه منه، غير أن من المفيد تحسين الواقع بالعمل وليس بالجدل. وهذا يذكرني بأهل بيزنطة الذين ظلوا يتجادلون جدلاً لا حدود له في أمور ليست ذات بال في وقت كانت بيزنطة محاصرة من قبل الأعداء فأصبح الجدل البيزنطي يضرب به المثل.وفي زماننا هذا تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أكبر اقتصاديات العالم حيث يمثل إنتاجها الوطني 28% من إجمالي الإنتاج العالمي، كما أنها أكبر قوة عسكرية، وهذا واقع لا جدال فيه، والجدل حول ذلك مضيعة للوقت، لكن هناك من أدرك الواقع وسعى لتحسينه وربما ترجيح الكفة ناصيته، مثل الصين التي لم تجادل قط في كون الولايات المتحدة الأمريكية قوة فريدة في العالم اقتصادياً وعسكرياً غير أنها لم تقف حيال الواقع موقف المتفرج، وإنما سعت وما زالت تسعى لتحسن من الواقع حتى يكون أكثر ملاءمة لها، وربما يأتي اليوم الذي تكون فيه قوة اقتصادية وعسكرية فريدة من العبث الجدل حولها.والتاريخ سطر لنا كيف أن المسلمين كانوا قوة اقتصادية وعسكرية فريدة في العالم في زمن مضى، ولم يغير الجدل من الواقع شيئاً غير أن الأمم الأخرى عملت جاهدة لتحسين الواقع ومن ثم تغييره، فتحسن ثم تغير بكثير من الجهد والعناء وساعدهم المسلمون في ذلك بانعطافهم عن العمل الجاد ووحدة الكلمة فتفرقوا وتحاربوا فوهنوا وذهبت ريحهم، فأصبحوا خارج الأمر الواقع في المنعة والقوة. (ولا جدال في الواقع) ينطبق على الأفراد، فمعظم المؤرخين والناقدين مجمعون على أن عهد المعتمد بن عباد، عهد نعم فيه الأدباء، وتبارى خلاله الشعراء، وبزغت نجوم، وأفلت أخرى، وعاش في واقع، ونسي أن ببابه قارع، من أعداء يتربصون به، ومنافسين ينتظرون فرصة الوثوب عليه. (ولا جدال في الواقع) أن حياته كانت حياة لهو وبذخ وإسراف، حتى إنه خلف بعد اعتقاله أكثر من ثمانمائة امرأة حسناء بين زوجة وجارية ومحظية، (ولا جدال في الواقع) أنه جر بذلك على نفسه وعلى أمته الويل والثبور، حتى نقل لنا حالة بعد زوال ملكه في قصيدته المشهورة التي تصور لنا وضعه، ووضع بناته بلباسهن البالي حيث زرنه في سجنه يوم عيد فقال:
|
فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً |
فساءني العيد في أغمات مأسورا |
ترى بناتك في الأسمال جائعة |
يغزلن للناس ما يملكن قطميراً |
يطأن في الطين والأقدام حافية |
كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا |
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً |
فردك الدهر منهياً ومأمورا |
وإيماءته إلى المسك والكافور، تجرنا إلى قصته مع زوجته المسيطرة عليه اعتماد البرمكية التي رأت بعض نساء إشبيلية يطأن في الطين حافيات فاشتهت أن تطأ مثلهن، فأمر بأن تصنع لها بركة من المسك والكافور لتطأ فيها مع بناتها ليحقق مناها، فوطأن على المسك والكافور، ثم دار الزمان دورته فأُسر في العيد فرآهن يطأن في الطين حافيات الأقدام ليس عليهن إلا ما يسترهن من الملابس البالية، وهو ينظر إليهن فقال قصيدته المذكورة. (ولا جدال في الواقع) ينطبق على الطقس والجغرافيا، وغيرها كثير، فالجدل حول أن المملكة ذات طقس صحراوي حار في الصيف بارد في الشتاء، كما أن الأمطار به شحيحة والأنهر غير موجودة، الجدل حوله غير ذي معنى، لكن الإنسان استطاع التعامل مع الواقع من خلال مكيف الهواء، ولعله يدرك بدرجة أكبر أن التحلية بمخاطرها ومحاذيرها هي الخيار الأوحد الأهم في توفير الماء المستخدم للاستعمال البشري، (ولا جدال في الواقع) أن الانتصار عليه يتطلب إستراتيجية لاستخدام ماء البحر المحلى، وضمان تدفقه بكميات كافية ولسنوات قادمة، من خلال نقل التقنية وتوطينها، فهي بالنسبة للمملكة كما هو الهواء لبقية العالم.
|
|