(هذا الوطن لا يقبل بديلاً عن الوسطية ويرفض التعصب بالقدر الذي يرفض فيه كذلك التحلل).. عبارة أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - يحفظه الله - خلال تسلمه التقرير السنوي لمركز الحوار الوطني، مؤكداً أن المرحلة تقتضي إيجاد استراتيجية وطنية لتصحيح أفكار الشباب وتضافر الجهود الوطنية لتمكن الشباب من التعرُّف على الطريق الصحيح نحو العمل والتنمية، وتنير عقولهم بقيم الوسطية والتسامح والإخاء التي يدعو إليها الدين الإسلامي الحنيف.
لا شك إذن أن تصحيح أفكار الشباب بات هدفاً استراتيجياً وطنياً يتطلب مشاركة جميع المواطنين وكافة مؤسسات الوطن وأجهزته خصوصاً في المراحل التعليمية الأساسية من السنوات الأولى حتى مرحلة التعليم الجامعي. من هنا يمكن القول إن فكر الحوار الوطني الواعي نتاج حتمي لإطلاق بيئة الحوار، كما أن بيئة الحوار نتاج لثقافة الحوار الوطني التي بدأ بها وأعلنها خادم الحرمين الشريفين منذ عدة سنوات، وهي استراتيجية وطنية لا يتأتى أن تظهر وتنمو إلا إذا ما فتحت أمامها جميع الأبواب العقلية المستعصية وسمح لها بالانطلاق دون قيود خصوصا تلك التي تمنع التعبير عن الرأي صراحة والتفكير بصوت مرتفع.
فثقافة الحوار والانفتاح على الآخر لا يمكن أن تظهر، فكيف أن تنتشر في بيئة سلطوية، أو في بيئة قمعية، أو حتى في بيئة أحادية الفكر والتوجه والمسلك والتنظيم التي تصادر الحريات الفردية وفي مقدمتها حرية النقد والتعبير. لهذا فإن تلقيح المجتمع ببذور فكر الحوار لا بد من أن يأخذ وقته بالكامل ويتفاعل بشكل طبيعي ومتواصل لتليين عريكة بيئة اجتماعية مركزية وهرمية في الشكل والجوهر.
إن التغيير بين يوم وليلة من بيئة محافظة ومتحفظة لا مكان فيها لفكر الحوار والنقاش والجدل، إلى بيئة الحوار والوسطية والاعتدال، يتطلب وجود إرادة عامة وخاصة لا تلين ولا تهدأ بل ولا تستكين. والأهم من ذلك كله تتطلب تعاون وتفاعل الجميع خصوصا في مراحل التنشئة الأسرية الأولى للأطفال، ناهيك عن ضرورة تغيير مناخ المدرسة وبيئتها وتهيئة وتدريب من يقوم عليها ويختص بعملية التنشئة التعليمية خصوصا من رجال التربية والتعليم.
الذي نود قوله إن زراعة بيئة الحوار في المجتمع عملية طويلة وصعبة لكن ليست بمستحيلة، وتتطلب ضرورة البدء بها من اتجاهين معا في آن واحد: من أعلى القمة إلى كافة المراحل حتى القاعدة، وكذلك من القاعدة الاجتماعية إلى الأعلى، لكن مع ضرورة التركيز المباشر على القاعدة الاجتماعية التي ينتج عنها أجيال وطنية جديدة بعقول متفتحة ومستنيرة، وأفكار ثابتة غير مشوشة ومستقيمة.
بمعنى آخر لا بد من إيجاد التربة الاجتماعية والتربوية المتنوعة الخصبة التي تحتوي في جنباتها على جميع الأطياف، ولا بد أيضا من توفير المناخ النفسي المستقر الملائم لتلك التربة كي يتم فيها زراعة فكر الحوار وتنمية ثقافة القبول، فالتربة الاجتماعية بمحتوياتها الإنسانية المختلفة هي المصدر الرئيسي للثقافات الإنسانية الواعية والمعتدلة. فوجود النظم الخلقية الأسرية الهادئة والمستقرة، التي ترفض استخدام وسيلة العنف كوسيلة لتوجيه ومعاقبة الأطفال، والتعامل الإنساني البيني وفقا لمبادئ وقيم إنسانية مستنيرة لا تفرق أو تميز بين المرجعية الدينية أو العرقية الطائفية أو المذهبية، وأخيرا تشجيع أخلاقيات التعامل الفردي والجماعي بقيم التقبل وروح المشاركة ومبادئ واحترام الرأي الآخر، جميعها من أهم متطلبات بيئة الحوار وفكره.
من الواضح إذن أن بيئة فكر الحوار وثقافته بما فيها من مكونات الانفتاح على الآخرين، القبول لأفكارهم، والتقبل لهم كبشر، ظاهرة إنسانية حديثة بدأت تأخذ موقعها في المجتمع الوطني بقيادة وتوجيه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز؛ ما يعني أن التحول من مرحلة رفض الحوار وعدم تقبل النقد والرأي الآخر، إلى مرحلة أخرى أفضل منها من حيث النوع والكم الفكري بدأت تأخذ موقعها وتحتل مكانتها في المجتمع الوطني.
الخوف ألا نستمر في تفعيل بيئة الحوار والاعتدال، والخوف كل الخوف أن يعاد فرض بيئة التشدد والتعصب وتعميمها. على أية حال يمكن القول إن ثقافة الجيل الحالي والأجيال القادمة لن تكون خاضعة في تشكيلها وتكوينها لمتغير تعليمي أو مرجعي عقائدي واحد، وإنما ترتهن لعدة متغيرات نظرا لوجود بيئة الانفتاح في إطار ثقافة كونية تعددية، وأيضا لكونها قادرة الاطلاع على ثقافات العوالم الأخرى، من جهة، ومن الجهة الأخرى تعرضها لمختلف المؤثرات الخارجية والداخلية خصوصا تلك التي توجه بضرورة توعيتها وتثقيفها بقيم الوسطية والاعتدال.
خاص «الجزيرة»
www.almantiq.org