الرياض - خاص بـ(الجزيرة)
واقع الأمة اليوم يحتم علينا النظر في كثير من القضايا، ومنها ما يتعلق بتجديد الفكر الإسلامي، والخطاب الديني، لبيان قيم الإسلام وسماحته ووسطيته، وفي الوقت ذاته بيان خطورة كثير من الظواهر، ومنها ظاهرة الغلو والتطرف والإرهاب، والتأكيد على مفاهيم الوسطية والاعتدال.. وقد خطت المملكة من خلال البرامج الدعوية والتوعوية التي نفذتها على مدار السنوات الماضية، إلى جانب عدد من الجهات ذات العلاقة في بيان أهمية منهج التعامل مع الناس، وفق منظومة رؤى سليمة، وأفكار بناءة مستندة إلى فهم صحيح للدين الإسلامي، وإدراك واع لأحكامه، وإيضاح عميق لجوهره.
المنهج الرباني
بداية يحدد د. توفيق بن عبد العزيز السديري - وكيل وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد لشؤون المساجد والدعوة والإرشاد: معنى الخطاب الديني أو الخطاب الإسلامي وهو الذي يمكن أن نعرفه بأنه تقديم رسالة الإسلام ومنهجه الدعوي المنبثق عن نظرة الإسلام للإنسان والكون والحياة، فهو النظرية التي تقوم عليها حياة المسلمين وسلوكياتهم وعلاقتهم مع أنفسهم والآخرين، وطريقة إدارتهم للحياة بأبعادها الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أي أن الخطاب يعكس فاعلية المجتمع من ثقافة وتطور وحضارة.
إذا عرفنا هذا فإننا نقول انه يجب أن يكون الخطاب الديني الجديد كما كان عليه الخطاب الديني القديم، كيف يكون ذلك؟ أقول: نعم، ان الخطاب الديني القديم الذي كان عليه سلف هذه الأمة هو الخطاب المطلوب اليوم ولك حق أن تتساءل وتقول لماذا؟ لأن الخطاب الديني مع الأسف اختطف في العقود المتأخرة، واستبدل بخطاب مسخ بعيد كل البعد عن روح الدين وجوهره، إذن فالخطاب الإسلامي المطلوب اليوم هو خطاب قائم على الكتاب والسنة خطاب مبني على المنهج الرباني وسار عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فهو خطاب إنساني يهدف إلى الحوار والتفاهم والتعايش والتعاون مع جميع الأطراف في المجتمع المحلي والإقليمي والدولي من أجل إشاعة قيم العدل والسلم والخير، وهو خطاب صادر عن مرجعية إسلامية معبر عن الهوية الثقافية والحضارية للأمة الإسلامية منطلقا من القاعدة الربانية {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وهو خطاب للبناء وليس للهدم، للإفهام لا للإبهام، يسعى للوحدة والتضامن وحشد جهود الأمة وتعبئة طاقاتها لإعلاء البناء الحضاري، وهو خطاب واقعي قائم على أساس التنمية باعتبارها أساس النهضة، وهو خطاب يرتقي لمستوى التعرف على المتغيرات والاستفادة منها ويستجيب للطموحات وينسجم مع هوية الأمة ويعبر عن خصوصيتها ويدافع عن مصالحها.
خلل الخطاب
وعن المنطلقات والأولويات التي يجب الانطلاق منها، والتركيز عليها، يقول د. توفيق السديري: علينا استقراء التاريخ المعاصر، وواقع المسلمين يؤكد أن هناك خللا ما في الخطاب، ويتضح ذلك من تتابع النكسات والكبوات لهذه الأمة وتخبطها في تلمس طريق النهوض والارتقاء والنجاح.
ولتجديد الخطاب الديني يجب أن تكون المنطلقات والأولويات قائمة على نفي الخبث عن هذا الخطاب وتقويم المنحرف وتخليصه من أسر مختطفيه، كما أنه لابد من إعادة النظر في الآليات والوسائل بل وفي منهجية الخطاب، ويكون ذلك بالآتي:
1- نفي الحزبية والأيدلوجيا عن هذا الخطاب (وأنا أفرق هنا بين العقيدة والأيدلوجيا حتى لا يساء فهمي).
2- تخليصه من الانفعال والعاطفة وتوجيهه لمخاطبة العقل والواقع وليس ملامسة المشاعر وإلهابها.
3- إيمانه بالتعددية التي هي من سنن الله في الكون ونبذ الاقصائية والتشنج.
4- جعله ذا ملامح موصوفة ومحددة وليس عاماً، وان يكون عمليا وليس نظريا.
5- النأي به عن الصنمية والتمحور حول الأشخاص.
6- ألا يكون قائما على توجهات شخصية أو خلفية ثقافية ضيقة تلوى من أجلها أعناق النصوص.
7- أن يكون قائما على الصدق والشفافية مع الذات ومع الآخر على حد سواء.
8- أن يكون خطاباً قادراً على تشكيل التاريخ وليس الاتكاء عليه للانطلاق منه.
التجديد سمة أساسية
أما د. إبراهيم بن محمد أبو عباة - رئيس جهاز الإرشاد والتوجيه في الحرس الوطني، فيؤكد أن تجديد الخطاب الديني إحدى العبارات التي نالت حظا وافراً من النقاش والبحث وتباينت فيها الآراء والمفاهيم بشكل كبير ولذلك قبل الإجابة عن السؤال أود تسليط الضوء على مفهوم تجديد الخطاب الديني حتى لا يلتبس الأمر على القارئ الكريم، فالإسلام هو الدين الخاتم الذي ارتضاه الله لعباده منذ بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قيام الساعة، ولذلك كان التجديد أحد أبرز معالم هذه الشريعة العظيمة وهذا يظهر من خلال التراث الضخم الذي تركه علماء الإسلام في بحث كل القضايا المستجدة وفق آلية علمية ومنهجية دقيقة.
ولا يمكن بحال من الأحوال وصف هذه الشريعة بأنها صالحة لكل زمان ومكان وهي شريعة جامدة تتوقف عجلاتها على أعتاب عصر معين أو وقت محدد.
ولذلك كان التجديد سمة من سماتها وسببا رئيسا من أسباب بقاء هذا الدين ظاهراً على الدين كله، وإذا تأملنا في قول الله تعالى في سورة النحل {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } الآية. نجد أن القرآن الكريم لم يحدد وسيلة معينة لامتثال أمر الدعوة إلى الله تعالى بل ترك للداعية أفقا رحبا بالبحث عن الوسائل المناسبة حسب ما يدله عليه اجتهاده من خلال واقع الدعوة وحال المدعوين، وبالطبع داخل الإطار الكبير كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
إذن التجديد بهذا المفهوم ليس مصطلحا جديدا أو بدعة حادثة بل هو معلم من معالم شريعة الإسلام وميزة من ميزات كل من تمسك بها.
والمملكة العربية السعودية - التي جعلت الإسلام المصدر الوحيد الذي تصدر عنه في كل شؤونها وحملت على عاتقها إيصال رسالته إلى العالم أجمع في صورته النقية المشرقة - راعت هذا الجانب بشكل كبير.
استقراء المسيرة
ويضيف د. أبو عباة: انه باستقراء سريع لمسيرة الدعوة إلى الله تعالى منذ عهد الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود نجد أنها سعدت بأنواع التجديد في الوسائل والأساليب مع المحافظة على المضمون وعدم المساس بأجزائه.
وبما أنه استقراء سريع كما أشرت آنفاً يمكن المرور على هذه الوسائل والأساليب دون الدخول في التفاصيل لأن هذا يحتاج إلى دراسة معمقة.
- أسلوب الوعظ المباشر عبر الدروس وخطب الجمعة كان المعلم الأبرز - في بدايات تأسيس المملكة من خلال نخبة من أكابر علماء الإسلام وكذلك من خلال الدعاة إلى الله تعالى وأئمة المساجد، فلا تكاد تدخل مسجدا أو تزور أحدا من الوجهاء إلا وتجد درسا علميا أو موعظة.
- تأليف الكتب أيضاً كان له نصيب وافر وان كان غالبا ينحى المنحى العلمي في الاعتقاد والفقه والحديث وغيرها.
- أسلوب آخر كان له حضور أيضاً وهو المكاتبات الشخصية من خلال رسائل يوجهها أحد العلماء استجابة لطلب أو إجابة عن سؤال
والاقتصار على مثل هذه الأساليب كان سببه أن طبيعة تلك المرحلة لا تتيح الكثير من الخيارات غيرها بسبب أنها تفتقر إلى وسائل التواصل المتنوعة.
أما في هذا الزمان فقد فتحت ثورة الاتصالات قنوات جديدة ومتنوعة ومتعددة لإيصال الدعوة إلى الله تعالى وبزيارة سريعة - مثلا - لأحد معارض (كن داعياً) الذي تقيمه مشكورة بشكل دوري وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية تلاحظ أن الجهات المسؤولة عن الدعوة إلى الله تعالى قد استفادت من هذه الثورة إلى أقصى حد، فأصبح الخطاب الديني يمتاز بالتشويق والجذب والفاعلية والتأثير من خلال وسائل متعددة منها مثلاً:
1- استخدام الشبكة العالمية (الإنترنت) لإيصال رسالة الإسلام وشريعته وأحكامه من خلال مواقع جمعت بين التقنية العالية والشكل الجذاب وسلامة مصادر التلقي وعلى سبيل المثال لا الحصر موقع الجهة الأولى المسؤولة عن الدعوة وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد www.al- islam.com فهو موقع حافل بكل ما يعين على فهم الإسلام بصورة صحيحة وبلغات مختلفة.
2- ما يمكن أن نسميه (ثورة الترجمة) التي جعلت أمهات كتب الإسلام متاحة بالعديد من اللغات التي كانت حاجزا يقف أمام الكثير من المسلمين الناطقين بغير العربية لفهم الإسلام من مصادرة الأصلية.
3- استخدام باقة جميلة الألوان زكية الرائحة من الوسائل والتقنيات الحديثة مثل رسائل الجوال، وتقنية البلوتوث، وسائل حفظ واسترجاع المعلومات، وبرامج الكمبيوتر وغيرها.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن الحرس الوطني كان له حظ وافر من تفعيل هذه الوسائل الحديثة في إرشاد منسوبيه مثل: إقامة المعارض وعقد المسابقات العامة وطباعة وتوزيع الكتب وإيصال الدعوة عبر الهدايا المتنوعة، والدعوة عبر السيارات من خلال الصور والعبارات التي تكتب عليها، واستخدام رسائل الجوال وتقنية البلوتوث، وكتب التلوين للأطفال وغيرها.
بقي أن أشير إلى ضرورة وجود دراسات علمية مفصلة لتجربة المملكة العربية السعودية في تجديد الخطاب الديني نظرا لكونها القدوة في العالم الإسلامي لأنها قبلة المسلمين في كل مكان وكذلك لوجود تجربة ثرية ليس لها نظير - بدون مبالغة - في العالم، كما أن من المناسب قيام وزارة الشؤون الإسلامية بالمملكة برصد هذه الوسائل وحصر تلك التجارب والعمل على تطويرها كذلك السعي في التجديد في الوسائل التي تناسب العصر من خلال عمل مسابقات كبرى للهيئات والمؤسسات والدعاة ينافس فيها المبدعون للعمل على تقديم أفضل وسيلة دعوية كل عام.