ستبقى جامعة الملك عبدالله مثارا للجدل لفترة لن تكون قصيرة.. فكل ما حول هذه الجامعة يثير القلق.. أن تشكيلها الوظيفي يهدد هذا الشعور الحكومي بالطمأنينة بوظيفة مأمونة مع (برستيج) الأستاذ الجامعي والمضمونة لنا جميعا دون أن نضطر إلى الدخول في منافسة السوق الجامعي الشرسة فسواء كنا منتجين علميا في حقولنا أو لم نكن وسواء كنا جادين ونزيهين أم لا فسنبقى في مقاعدنا حتى التقاعد دون أن يهدد أمننا الوظيفي شرط الوظيفة كما تطرحه هذه الجامعة الفتية وهو شرط الكفاءة العلمية والجدة في البحث العلمي. هي كذلك تهدد شرط السعودة التي جعلتنا جزرا معزولة عن خبرات من حولنا وشكلت هذه الجدران الوهمية الذاتية بالتفوق على (الأجنبي) وجعلت السوق غير متوازنة للاستفادة من قدرات عربية وأجنبية لم نحسن استثمارها وملأت أقسامنا وإداراتنا ببعض النماذج المهترئة من القيادات الإدارية التي وصلت لمكانها أو بقيت بشرط السعودة.
والمسألة الأكثر إثارة للجدل هو بالطبع درجة مشاركة العنصر النسائي المتوازنة بين الجنسين سواء في مشاركة المرأة في إنشاء البنية التحتية للجامعة أو في التدريس أو في تلقي العلم.. وما يجعل هذه المشاركة سهلة إلى حد ما كون الجامعة في الحقيقة اقرب إلى مراكز البحوث العلمية منها إلى جامعة تقليدية كما خبرناها وعرفناها فلا صفوف دراسية كما يعرف التعليم التقليدي ومن طاف بالجامعة الأسبوع الماضي فسيذهل من التجهيزات المعملية التي تتشابه إلى حد كبير مع معامل هارفارد وغيرها من الجامعات التي عقدت معها جامعة الملك عبدالله شراكات علمية.
من المحزن أن تحتل مسألة جانبية في حياة وقيم الجامعة كل هذا الاهتمام لينصب النقاش حول مسألة الاختلاط في حين يجب أن يكون دائرا حول التحدي الذي يجب أن تواجهه هذه الجامعة وهو قدرتها على إحداث تغيير فعلي في المناخ الجامعي والقيم العلمية التي تحكم العمل الأكاديمي حتى تتمكن الجامعات الحكومية فعلا من محاولة المجاراة والتمثل لتحقيق الأهداف التنموية التي يتوقع منها من خلال درجة فعاليتها العلمية وخياراتها الطلابية والوظيفية التي يجب أن تحكمها معايير مثل الكفاءة العلمية والقدرة على جذب التمويل لبحوث جارية تصب في الاحتياجات الفعلية للوطن كما هي الحال في كل مراكز البحوث العلمية في العالم.
ذهنية التربص والاستعداء والشكوى من كل شيء هي إحدى العلل الحقيقية التي تعاني منها العقلية العربية عموما فنحن نحب أن نشتكي ونذم في كل جديد دون أن نفكر كيف يمكن لنا بدلا من ذلك أن نساهم في الاستفادة مما يجري أو مستوى المسؤولية الذاتية في ما يجري، وبدلا من أن نحمد الله على أن الاستثمارات الوطنية تصب اليوم في الخانات التي ستبقى لأبنائنا من بعدنا وتوجد مصادر دخل لا تنضب وهي العقول البشرية المفكرة بدأنا من نقطة الاختلاف لا الاتفاق.
من حقنا أن نختلف، ومن حق كل منا أن يطرح وجهات نظره لكن يجب أن يكون ديدننا هو المصلحة الوطنية وعدم تشتيت وتضييع الجهود في قضايا جانبية تحرف الأهداف عن مساراتها وتشتت جهود الجامعة والقائمين عليها بدل أن تجعلهم يركزون حيث يجب أن يفعلوا: الإنتاج العلمي في المجالات الحيوية التي تساعد على حماية المملكة وتوجد لها مصادر طاقة بديلة.
الأسئلة الحقيقية التي يجب أن نمطر الجامعة الوليدة بها هي حول قدرتها على إقناعنا بجدوى هذه الاستثمارات المالية الهائلة وقدرتها على التكامل مع مدن الملك عبدالله الاقتصادية لتحقيق النهضة العلمية والبشرية التي نتوقع منها، وهذا بالطبع لن يحدث بين ليلة وضحاها. العلم ليس دولارا يمكن حساب قيمة عائدة بالزمن والمادة..إنها استثمارات طويلة الأجل سيحتاج تحقيقها إلى تكاتفنا جميعا حول الوطن والقيادة التي جعلت هذا الحلم ممكن التنفيذ.
لا أدعي أنني أمثل أحدا لكنني أعتقد أنني ربما أمثل شريحة لا بأس بها من المجتمع. شريحة في الغالب صامتة لكنها تعرف أن إشعال المصباح وسط ظلام دامس سيزعج العيون التي اعتادت على الظلام وسيرفع أصحاب هذه العيون أيديهم ليغطوا أعينهم بها كيلا يجهرهم قوة الضوء وهم سيحاولون جاهدين إطفاء النور والبقاء في الظلام لأنه هو كل ما يعرفونه من العالم بعد أن انفصلوا عنه منذ ولدوا.
من هنا تأتي أهمية هذه الأغلبية الصامتة التي أتمنى أن ترفع صوتها وتعلن دعمها غير المحدود لقيادة متقدمة تمشي بخطى إستراتيجية نحو عالم القرن الواحد والعشرين. كل ما أتمناه هو أن ندع هذه الجامعة في حالها وأن ننشغل عنها كما اعتدنا باجترار همومنا الصغيرة التي لا تنتهي ونترك للجامعة العمل الحقيقي داخل معاملها وبكوادرها وبالمناخ والفرص العلمية التي ستمنحها لأبنائنا وللعالم من حولنا. الملك عبدالله سيقودنا مرغمين للقرن الواحد والعشرين وهو سيجبر الجميع على الدخول إلى آلة الزمن العجيبة دون خط رجعة ولنتذكر أن كل مشاريع التحديث التي غيرت تاريخ الأمم كانت محل الجدل ولولا شجاعة قادة تاريخيين قرروا أن يغيروا عالمهم ومن حولهم لما تمكنا من التحول فلنشد على يد القيادة فنحن سنكون دائما معك يا بابا عبدالله كما نادتك الطفلة الصغيرة على المسرح ليلة الافتتاح.