يدرك الإنسان السليم في عقله وفكره وبدنه أن حياته في دنياه مآلها إلى الموت، وأن خلوده سيكون في حياة الآخرة. والناس في حياتهم يتفاوتون في حظوظهم ومكانتهم ومواقعهم، كل على حسب إرادته وفعله وسعيه. والإنسان متفرد بذاته؛ فهو من الناس ويختلف عن الناس، واختلافه عن الناس هذا هو الذي قد يصيره أن يكون زعيماً أو عالماً أو أديباً أو صاحب مال، والإنسان الخير من هؤلاء هو الذي يقوم في حياته بعمل خير يخلده به التاريخ بعد مماته؛ فالقائد أو الحاكم قد يخلده عدله وما فعله من تقدم وتطور وسعادة لمَن هو مسؤول عنهم، والعالم قد يخلده علمه بما يقدمه من علم يفيد الناس، والأديب والشاعر قد يخلدهما ما أبدعاه من أدب وشعر يمتع عقول الناس من بعدهما، أما من أُعطي حظاً من مال وثروة فقد يخلده فعل الخير للناس، وبما يشيده ويبنيه لينتفع به الناس من بعده. والمغزى والهدف من هذا المقال موجه لأصحاب المال والثروة عندنا؛ فالحياة ذاهبة والمال ذاهب، والذي يخلد صاحب المال والثروة هو ما يفعله فيما يفيد الناس قبل موته وهلاكه.
|
وقد تطرق أبو الطيب المتنبي إلى هذه المسألة فقال:
|
أبني أبينا نحن أهل منازلٍ |
أبداً غراب البين فيها ينعق |
نبكي على الدنيا وما من معشرٍ |
جمعتهمُ الدنيا فلم يتفرقوا |
أين الأكاسرة الجبابرة الأُلى |
كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا |
من كل من ضاق الفضاء بجيشه |
حتى ثوى فحواه لحْد ضيق |
خُرْسٌ إذا نودوا كأن لم يعلموا |
أن الكلام لهم حلال مطلق |
والموت آتٍ والنفوس نفائس |
والمستفِرُّ بما لديه الأحمق |
يقول أبو الطيب المتنبي: يا ناس، يا بني آدم، نحن نازلون في منازل يتفرق أهلها بالموت؛ فنحن نبكي على فراق الدنيا - الحياة - والناس - مهما اجتمعوا - في حياتهم، فلا بد لهم من التفرق؛ يفرقهم الموت، فأين ملوك الفرس؟ وأين الجبابرة الذين كنزوا - جمعوا - المال فما بقي المال ولا بقوا هم؟ الكل إلى فناء وهلاك؛ فالجبابرة وملوك الفرس خرس إذا نودوا؛ فهم موتى لا يجيبون منادياً، فكأنهم يظنون أن الكلام محرم عليهم، والنفوس مصيرها إلى الموت، وإن كانت عزيزة نفيسة عند أصحابها، والأحمق هو الذي يغتر بدنياه وبما يملكه من مال. اللهم أبعد الحمق عن رجال الأعمال عندنا.
|
|