الثقافات الاجتماعية تتفاوت في مستوى مخرجاتها، فكما أن ثمة ثقافة تبني الإنسان وتعمِّق لديه الحاسة الخلقية فأيضاً ثمة ثقافة تحدو - بشعور أو بدونه - من ينتمي إلى بنيتها نحو الانحدار والتخفف من مقتضيات السمو السلوكي؛ ومن تلك الثقافات السلبية في مخرجاتها،
تلك الثقافة التي تسيطر عليها ثقافة العيب على نحو بالغ الإفراط مما يفضي إلى حزمة من المتتاليات التقويضية المستعصية على الضبط والتي أُرقِّم اثنين من أبرز صورها على سبيل الإيجاز.
الأول: وهو ذو طابع فكري.. أنه عندما تهيمن ثقافة العيب على كافة مجريات الحياة وتبيت مفردة عيب هي الحاكمة لعامة سلوكنا في الواقع العام فإنها حينئذ ستتشكل أجواء ملائمة لتجلي صوراً من حالات النفاق والاحتفاء بالمظهرية الشكلية وستكون الأرض خصبة لنمو ضروب من وضعيات التماهي المصطنع بحسبه آلية قاصدة نحو تلافي إفرازات الرقابة الشعبية الصارمة والتي لا يترتب على توسُّع مساحاتها إلا شيوع كافة المفردات التي هي محل تنديد من قِبل أدبيات القانون الجمعي. نعم قد يبدو النسيج الاجتماعي - عندما يتزايد مستوى الرقابة المتبادلة بين أفراده! - على نحو من الاتساق كما يبدو من أول وهلة، ولكن عند إمعان النظر سرعان ما يسفر هذا التناسق الظاهري عن تجويف في العمق تبدو تمظهراته في ذلك الانحسار الرهيب لدور النظام القيمي في تشكيل قوام الحياة الاجتماعية. إن تمدد مساحات العيب وتضاعف النظرة الاجتماعية الضاغطة لا ينتج في النهاية إلا لوناً من الشخصيات المنخوبة والكائنات المرعوبة التي قد تتعاطى مع الأطر القيمية ولكن بعد ما تفرغها من المعنى!، وقد تتقبل إملاءات النسق الاجتماعي ولكن بعد الانفصال عن روحها! على نحو يقلل من جدوى الانصياع القبلي لها. إن من المتعذر إخراج جيل يتمتع باستقلال ذاتي وشخصية قوية تنبعث في كافة أنشطتها من وحي النداء الباطني المنبعث من أقصى الضمير وليس من الخضوع لإيحاءات الثقافة الشعبية وإحالاتها، يتعذَّر تخليق ذلك النشء من غير خلق مساحات كافية للحرية، ومن دون ضخ جرعات كافية لتعميق مبدأ الرقابة الذاتية التي لا تجعل المرء محكوماً بما هو سائد وإنما هو محكوم بالمبادئ والمثل ذات المصداقية المتناهية على نحو تكون الأولوية الاعتبارية فيه للقيم لا للتقاليد الفاقدة لروح الإيمان. حينما تتمحور الثقافة الاجتماعية حول ثقافة العيب بحسبها إحدى الركائز الأهم في الثقافة، وحينما يستفحل دور الضبط الاجتماعي المتكئ على المنطق الإملائي والروح الإكراهية فإنه في المقابل سيتراجع - لدى النشء - تأثير الأصول والقيم الأخلاقية في توجيه بوصلة السلوك، وتحديد مساراته، وسيتسع حينئذ الحيز الذي تحتله المصانعة المجاملية الملامح والتي قد تستبطن ما يناهض المكونات الأساسية للثقافة المألوفة.
الثاني: وهو ذو طابع مادي.. أن ثقافة العيب هي التي جعلت كثيراً من الفئات الشبابية تنفر من الأعمال المهنية والصناعات الحرفية ويؤثرون عليها الانتساب للسلك الوظيفي حتى ولو كان الدخل الذي يُدِرّه لا يقارن بالعمل اليدوي. معظم الأفراد يحكم على نفسه أو على سواه بالإخفاق الذريع عندما لا يحالفه التوفيق في تجسيد المأمول في الخط التعليمي ومن ثم لا يفوز في مبتغاه في الظفر بوظيفة مرموقة ومنصب عالي القدر!، وكأن النجاح في الحياة محصور في الدراسة والانتماء الوظيفي فقط! إن كثيراً من الذين عانقوا قمم المجد لم يتح لهم مواصلة مسيرتهم التعليمية وتضاءلت حظوظهم في تسجيل التألق في المشوار الدراسِي، ومع ذلك كانت لهم بصماتهم الجلية المحفوظة في سجل التاريخ. كثيرون هم أولئك غير المرشحين للإبداع في الحقل التعليمي ومن ثم الوظيفي، لكنهم ينطوون على ضرب من القدرات الذاتية والمواهب الفذة ما يؤهلهم للالتحاق بمصاف القيادة في أصعدة أخرى. إن سبل النجاح كثيرة وتجسيد التفوق متاح وإحراز التقدم سبله ميسورة، ولكن بشرط التوفر على التصور الواعي والإرادة الصلبة التي لا تلين. كثيرٌ من الشباب نتيجة لما لديهم من انطباعات سلبية عن العمل الحِرفي انضموا إلى جحافل العاطلين ودلفوا في دوامة البطالة الفتّاكة التي كثيراً ما تدفع بمن تلتهمه نحو مسارات مشبوهة وتحيله صيداً سهلاً للمنظمات الشّرية التي تملك مهارات فائقة في ميدان العمل الإجرامي. كثير من الشباب بات عاجزاً عن تجاوز ثقافة العيب مما قلل من فرص الانخراط في الأعمال المهنية، وضيق إطار الاختلاف إلى سبل توفير العيش الكريم الذي يتحقق بتشمير السواعد وعرق الجبين. إن سوق الحياة مزدحم بمنظومة من الفرص العملية في مجالات متنوعة كالميكانيكا والنجارة والسباكة والحدادة والسمكرة والكهرباء والتبريد والإلكترونيات وأجهزة الحاسوب وغيرها الكثير، ولكن النظرة الدونية لتلك المهن جعلت الشباب يشيحون بوجوههم عنها فاتحين المجال لتلك العمالة الوافدة التي بدأت تلتهم الأسواق وتغزوها على كافة الصعد، وبالتالي أحكمت قبضتها الحديدية على مصادر الدخل الحُر المتعدد، تاركة أبناء البلد يمارسون هواياتهم المفضلة في اغتيال الوحدات الزمنية، واحتساء المدخلات الثقافية الموبوءة، وارتشاف مواد الضخ القنواتي بعجره وبجره، والتسكع على هامش الحياة!. إنه لا بد من صياغة أنماط ثقافية تستحيل جراءها المعاينة الازدرائية للعمل اليدوي إلى تعاطٍ توقيري يحتفي بكافة صور الكسب الشريف على نحو يعيد أبناءنا لتمَلُّك زمام الأسواق وغشيان تشكيلتها الجغرافية التي اصطكت بألوان من العمالة التي دلفت - بفعل الغياب الرهيب لأبناء الوطن عن موارد الفعل التكسبي! - في تنافس ماراثوني محموم على التهام أموالنا وازدراد اقتصادنا والتنعم بخيرات البلد الذي تنازلنا عن إدارة أسواقه بكل طواعية واختيار!!.
Abdalla_2015@hotmail.com