ما زلت حتى اللحظة، أردد مع نفسي، ومع أحبتي وأصدقائي، ممن يهاتفني بين وقت وآخر، للتعزية في فقد الأخ والصديق والحبيب، العالم الكبير الأستاذ الدكتور ناصر بن علي الحارثي -رحمه الله-.. أردد والحسرة تخنقني، والدموع تغسلني: هل يعقل أني لن أرى أخي وصديقي الدكتور ناصر بن علي الحارثي بعد اليوم..؟!.
|
* مرّ يومان قبل كتابة هذا المقال، وأنا في ذهول ووجوم. جاء مساء يوم الجمعة الفارطة كالصاعقة، فما وصلني الخبر المشؤوم، حتى سارعت للاتصال على جوال أبي باسم، فإذا به خارج نطاق الخدمة، وكأنه هو الآخر، فارق الحياة ورحل مع صاحبه، ولأني لم أصدق ما تردد ونشر من أخبار، فقد توصلت بالصديق الدكتور زايد بن عجير الحارثي، الذي أكد لي الخبر الفاجعة، وتمنيت أنه لم يفعل، أو لم يرد وقتها، حتى أبقى في شكي ولو لساعات حتى الصباح، لكن الأحزان تهجم على الصدور دون أن تستأذن، ذلك أني دخلت في دوامة من الحزن، الذي أفقدني الرغبة في نوم أو طعام، وبقيت أصارع آلامي وأحزاني حتى مساء هذا اليوم الأحد.
|
* خيّم عليّ مساء الجمعة المشؤوم، وكأنه (المساء الحزين) الذي غالبه الشاعر الكبير أبو القاسم الشابي بقصيدة بهذا العنوان، فقال منها:
|
أظلّ الوجود المساء الحزين |
وفي كفه معزف لا يبين |
وفي ثغره بسمات الشجون |
وفي طرفه حسرات السنين |
وفي طرفه لوعة لا تفر |
وفي قلبه صعقات المنون |
وقبّله قبلاً صامتات |
كما يلثم الموت ورد الغصون |
* إن من أعظم أحزان الأمة، وأشد آلامها، أن تفقد فجأة، واحداً من أشهر علمائها، وعلماً بارزاً من أعلامها، وابناً باراً من أبنائها، وذاك هو الدكتور ناصر بن علي الحارثي، العالم العلم، الذي نذر حياته ووقته وجهده وماله، من أجل البحث والتوثيق والتأليف، فنشر الكتب الكثيرة، والأبحاث الرصينة، وساهم في الدرس والغرس، في جامعة كبيرة هي جامعة أم القرى، تخرج فيها، وعمل فيها، وتوجه في جل أبحاثه، إلى خدمة الآثار العربية، والحضارة الإسلامية، انطلاقاً من مكة المكرمة، التي عاش فيها طالباً وأستاذاً في جامعتها، وباحثاً ودارساً لتاريخها وحضارتها وثقافتها، حتى مات فيها.. - رحمه الله رحمة واسعة-، وأسبغ عليه رضوانه وغفرانه.
|
* أودِّع ناصراً، وكأني أودِّع روحي وفؤادي، لما له من حب وتقدير وإجلال ومودة في قلبي، بحجم الحب الكبير الذي كان يحمله في قلبه النظيف لي ولكل الناس، حتى أني لم أعرف أن له كارهاً أو مبغضاً، ولم أعرف أنه ذكر أحداً بسوء قط.. رحماك ربي:
|
إن يوم السرور أقصر من يو |
م.. ويوم الفراق دهر طويل |
* تدمع العيون يا أبا باسم، وتحزن القلوب يا أبا باسم، فلا نقول ما يسخط ربنا، فلولا أن الموت وعد صدق، وموعد جامع، عند ربّ العالمين، وإن الآخر منا يتبع من سبق؛ لكان وجدنا عليك أعظم وأكبر وأشد، فنحن نفقدك محزونون مكلومون، وإلى ربنا داعون ضارعون، أن يغفر الله لك، وأن يتجاوز عنك، وأن يرحمك رحمة الأبرار:
|
إلى كم أمنّي النفس يوماً وليلة |
وتعلمني الأيام أن لا تلاقيا |
* عرفت أبا باسم قبل أكثر من عشرين عاماً، فقد طلبت منه المساهمة معنا في لجنة المطبوعات في التنشيط السياحي، فقبل عضوية اللجنة، وساهم بفكره وجهده وثاقب رأيه، في تطوير عمل اللجنة، بل كان في مقدمة الباحثين والمؤلفين الذين أثروا برنامجها، وميزوا نشاطها، فتصدرت كتبهم قائمة مطبوعات اللجنة الاثنين والخمسين كتاباً، وعندما افتتحت (منتدى السالمي الثقافي) في مقره الجديد في بني سالم، كان هو أول محاضر فيه. حاضر عن تاريخ قرى الطائف، في حفل رعاه معالي محافظ الطائف فهد بن عبدالعزيز بن معمّر، بل قبل بكل أريحية وكرم، عضوية مجلس إدارة المنتدى كمستشار عام، ودعمني بمقترحات ساهمت في إنجاح الموسم الثقافي للمنتدى في الصائفة الفارطة.
|
* نشر الدكتور ناصر الحارثي أكثر من (28 كتاباً)، جاء كثير منها على شكل موسوعات، وهذه جهود لا يتصدى لها إلا عالم كبير، وباحث ثبت، ودارس صبور. وربما قليل من الناس يعرف أن العالم الجليل الدكتور ناصر الحارثي، الذي نثني عليه بعد موته، ونمدحه بعد رحيله..! هو المؤرخ والآثاري الذي لا يكتب للناس من بيته، ولكنه ينتقل إلى حيث المعالم والآثار، فيدرسها على الطبيعة، ويصورها تحت أشعة الشمس، ويقيسها بالمسطرة والفرجار، قبل أن يبحث عما له صلة بها في بطون الكتب.
|
* في واحدة من رحلاته العلمية البحثية التي وقفت عليها -وهي كثيرة جداً- قضى قرابة ثلاثة أيام، من الصباح حتى المساء، وهو يتفقد أحجار وصخور حمى النمور في شمالي الهدا، في منطقة بعيدة عن العمران، ولا تصلها طرق للسيارات، فكان يوقف سيارته حيث ينتهي به الطريق، ثم يسير على قدميه مسافات بعيدة، متسلقاً الصخور والأحراش، وليس معه سوى قلم وورق وكاميرا وماء وزاد قليل، حتى كشف ووثق لأكثر من (36 نقشاً) صخرياً، تؤرخ لمراحل متقدمة من تاريخ العرب والمسلمين في هذه البقعة من الطائف.
|
* نالت الطائف -المحافظة- عناية واهتمام الباحث الكبير الدكتور ناصر بن علي الحارثي، منذ سنوات بعيدة، فقد كتب: (موسوعة الآثار الإسلامية في محافظة الطائف في ثلاثة مجلدات - والمعجم الأثري لمحافظة الطائف - وأعمال الملك عبدالعزيز في عشيرة)، وكلها صدرت عن لجنة المطبوعات في الطائف، كما أنه أنجز كما أخبرني -رحمه الله- في آخر مهاتفة لي معه في رمضان الفارط، (موسوعة آثار الطائف)، وهو العمل الذي سبق وأن طلبناه منه في اللجنة منذ أربع سنوات، وعسى أن يصلنا بعد وفاته - رحمه الله-.
|
* كما أعطى -رحمه الله-، أهمية خاصة للآثار الإسلامية في مكة، فبحث في آثار ومعالم الكعبة المشرفة، والمسجد الحرام، وزمزم، وكافة الأماكن المقدسة في مكة وما حولها، وتوج جهوده الجبارة هذه، بموسوعته العظيمة الجليلة: (الآثار الإسلامية في مكة المكرمة)، في مجلد ضخم من القطع الكبير، و(800 صفحة)، ومن حقه -رحمه الله- وإن كان بعد رحيله- علينا كافة، وعلى مكة وجامعتها العريقة، ورجالها وعلمائها وأدبائها ومثقفيها، الاحتفاء بهذا العمل الموسوعي، وتكريم صاحبه ولو بعد موته، فقد درجنا على تذكر الأفضال منا إذا ماتوا..!.
|
* كان الفقيد ناصر الحارثي، نظيف اللسان واليد، عفيفاً عزيزاً، وشفافاً إلى أبعد حد.. كان أكثر ما يزعجه ويقلقه، قهر العلماء أمثاله، والضيم الذي يراه على وجوه الأعزة من الناس.
|
* هذا هو الفقيد الذي نرثيه اليوم بمرارة، وكان ينبغي علينا أن نحييه بالأمس بحرارة..!
|
* زرته في داره الجديدة في العوالي بمكة في شهر رجب، وعرج بي قبل الخروج على مكتبته الخاصة، فشاهدت مجلسه الأرضي بين أكوام الكتب، وسألته: لماذا لا يتخذ مكتباً يجلس عليه..؟ قال: لا أرتاح إلا للجلوس هكذا. ثم تمازحنا، وذكرته بنهاية الجاحظ التي كانت بين كتبه، فضحك وضحكت، وخرج يودعني عند باب الدار التي سكنها قبل أشهر قليلة، فتركها من بعده.
|
* إن فراق أبي باسم، خسارة كبرى لا تعوض، فهو قائمة بحثية، وهامة علمية، وهرماً ثقافياً لا تخطئه عين:
|
فراقك مثل فراق الحياة |
وفقدك مثل افتقاد الدِّيم |
سلام عليك.. فكم من وفاء |
نفارق منك.. وكم من كرم |
* عرفت أبا باسم وجالسته، وعملت معه دارساً وباحثاً، وحضرت معه ملتقيات علمية، ومنتديات ثقافية، داخل المملكة وخارجها، وكان رحمه الله، لا يأتي من مكة أو من ميسان إلى الطائف، إلا ويراني وأراه، وكنت أغبطه على سعة اطلاعه، وعلى جلده وصبره على البحث وما يصاحبه من وقوف ميداني، كما كنت أكبر فيه حبه لوطنه ومجتمعه، وما له من علاقات واسعة بمؤرخين وباحثين ودارسين من داخل المملكة وخارجها، وقد رأيته يستضيف مؤرخين عرباً وعجماً، ويأخذهم إلى حيث الآثار والمعالم التاريخية، وزارني قبل عامين ومعه مؤرخ إسباني لم أعد أذكر اسمه، وقد أوقفه على قرية الحجاج بن يوسف، وعلى سد السملقي، وكذلك حصون وقرى تاريخية في بلاد بني سالم.
|
* أكتب وأنا أسأل نفسي مرات ومرات: هل يعقل أني لا أرى الأخ والصديق ناصر بن علي الحارثي بعد اليوم..؟!.
|
* أرثيك يا أبا باسم، وأرثي بعدك، البحوث الجادة، والدراسات الهادفة.. وأعزي أهلك ونفسي وكل من عززته فأعزك، وأحببته فأحبك، من الأدباء والعلماء والمثقفين، والطلاب والطالبات الذين درسوا عليك فجهروا بفضلك..
|
* أأرثيك فقط.. بل أبكيك يا أبا باسم.. لكأني بك تلوح بيديك وأنت تودعنا وتقول:
|
والله.. ما اخترت الفراق وإنما |
حكمت عليّ بذلك الأيام |
|
وما فارقت إخواني وأهلي |
ومن أحببت إلا عن غلاب |
|